لو بحثنا عن المعنى الحقيقي للديمقراطية بالمصطلح الشمولي لوجدنا أنها تعني اشتراك جميع أطياف الشعب بالحكم، من خلال انتخاب من ينوب عنهم لتمثيلهم في البرلمان، وبذلك يصبح الشعب حاكماً فعلياً من خلال مراقبة الأداء الحكومي، وتشريع القوانين التي من شأنها أن تُسهّل حياة المواطن وتنظم عمل الحكومة.
إن كانت الديمقراطية بهذا المعنى فمن الواضح أن الإدارة الأمريكية التي احتلت العراق بحجة نشر الديمقراطية فيه فشلت فشلاً ذريعاً في ترسيخ الديمقراطية في العراق، بعد أن تحول معناها في نظر الأحزاب الحاكمة على أنها حكم الأغلبية فقط! وهذا ما جعلهم متمسكين بحق المكون الأكبر في الحكم، ومستعدين لإحراق البلد والاقتتال فيما بينهم للدفاع عن هذا الحق المزعوم.
إن حصر مفهوم الديمقراطية بهذا المعنى الضيق منح الأحزاب الحاكمة السلطة المطلقة في كل شيء، بعد أن امتلكت تلك الأحزاب المال والسلاح الضروريين للسيطرة على الانتخابات بشكل كامل، وضمنت وصول من يمثلهم إلى البرلمان دون النظر في أحقيته أو أهليته لهذا المنصب، والأدهى من ذلك أنهم تمكنوا من ربط حق الأغلبية بالمذهب، وهذا ما جعل ما يسمى بـ"حرية الرأي" مجرد وهم لا أكثر، لمن يحاول أن يعبر عن رأيه فيما يجري، تلك السياسة لم تأتِ من قبيل المصادفة، فكل شيء مدروس بعناية ومخطط له منذ كتابة الدستور العراقي، والذي أشرفت على صياغته لجنة يرأسها ممثل المرجعية في النجف.
إن حرية التعبير عن الرأي هي جزء أساسي من مفهوم الديمقراطية الحقيقية، والتي عملت الأحزاب الحاكمة على طمس معالم هذا المعنى، لدرجة أصبحت فيه الصحافة مقيدة، وأصبح النقد تهمة حقيقية قد يواجه مرتكبها العقوبات القانونية اللاذعة، وأصبح مصطلح السلطة الرابعة، الذي يطلق عادة على مهنة الصحافة غير معمول به في بلدٍ أصبحت فيه حرية التعبير جريمة، وحق الوصول للمعلومة ممنوع، وحماية الصحفيين أصبحت حبراً على ورق.
نعم إنك الآن تستطيع أن تقول ما تشاء، وتكتب ما تشاء في حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال المقالات التي تنشرها، لكن السؤال: هل ستكون آمناً بعد أن تقول رأيك؟ هنا تكمن مشكلة التعبير عن الرأي في العراق، والتي أصبحت مرهونة بالجهة التي تعمل فيها صحفياً، أو الحزب الذي تنتمي إليه، إن كان رأيك يروق لمن في السلطة فلا خوف عليك، وإن كنت معترضاً على شيء فتوقع العقوبة، أو المطاردة، وحتى القتل في أية لحظة، بل تعدَّى الأمر أحياناً إلى محاربتك في رأيك حول ما يخص الشأن الدولي والإقليمي أيضاً، فلا يحق لك أن تنتقد إيران، ولا يحق لك أن تستنكر تدخلها في العراق، ولا يحق لك أيضاً أن تطالب بتحرير بلدك من التبعية لإيران، أو أن تطالب باستقلال القرار العراقي، تلك هي الديمقراطية التي جاءت بها أمريكا للعراق، وجعلت من هذه الأحزاب وقادتها آلهة لا يمكن انتقادهم أو الحديث عن فسادهم، وبالقانون الذي شرعوه بأنفسهم، والأدهى من ذلك أن أمريكا هي نفسها الحامي الأول لهذا النظام، وأن أمريكا التي تعترف بسيادة العراق تتفاوض مع إيران لِلجم تصرفات الأحزاب التي تحميهم وجل قادتها على قوائم الإرهاب الأمريكية!
قد أُحاسب أنا شخصياً الآن بسبب هذه المقالة، وقد أُصبح بين عشية وضحاها مجرد طريدة للقانون العراقي الحالي، وقد يكون مصيري كمصير 74 صحفياً ممن سبقوني إلى دار الآخرة، فلا أحد يعلم الغيب مطلقاً، لكن الجميع يعلم مصير مَن ينتقد السلطة، أو الأحزاب الحاكمة في العراق، أو من يقودها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.