اثنا عشر عاماً مرت على أول رمضان أقضيه خارج مصر والوحيد حتى الآن. هل تذكرون أغنية "رمضان" لهشام عباس؟ كانت إصدار ذلك العام. لا يمكن أن أنساها.
في رمضان 2010، كابدت مشقة لم أتصورها أبداً جرت معها الدموع على وجهي أنهاراً، لكني ذقت حلاوة غير مسبوقة دفعتني لمحاكاة تجربة الاغتراب والانقطاع إلى الله في الرمضانات التالية في بلدي. كان ذاك الرمضان البذرة الأولى في طريقي إلى الله، فمنذ ذلك الحين تسري معي تلك الحلاوة بفضل الله في كل رمضان أعتكف فيه في المسجد وحدي في العشر الأواخر من المغرب وحتى الشروق.
لماذا أكتب القصة الآن بعد كل هذه السنين؟ لأن وزير الأوقاف الظالم في بلدي القاهرة طالعنا بقرار إغلاق المساجد في وجوهنا هذا العام أيضاً من بعد صلاة التراويح بدعوى الوباء فلا تهجد ولا اعتكاف. وفي حال لم يراجع نفسه، سيكون هذا هو العام الثالث على التوالي الذي أُحرم فيه من الاعتكاف. قال مجحفاً ليمنعنا من بيوت الله إن المسجد ليس فندقاً للإقامة، داعياً من أراد إلى الاعتكاف من منازلهم! ومن ذاق عرف حلاوة جلسة المسجد وأثرها في النفس والسكينة التي تتنزل على القلب فما بالك في ليالٍ شريفة كهذه التي نعيشها!
أما دعوى الوباء وفي كل هذا الانفتاح والتزاحم الذي نشهده في كل المحافل الترفيهية فلا تستحق الرد!
معاناة قبل الفتح
قبل اثني عشر عاماً وأنا في العشرينات، سافرت في زمالة صحفية إلى ولاية مينيسوتا الأمريكية مع معهد الصحافة الدولي وتزامنت الرحلة مع شهر الصيام. لم أتوقف كثيراً وقت التقديم مع علمي أن البرنامج سيكون في رمضان، وقلت لمَ لا أعيش مذاقاً مختلفاً للشهر الكريم؟ توجّست قليلاً لما جاءني خطاب القبول وتفاصيل البرنامج. شهران في أمريكا أحضر برنامجاً مكثفاً فيه من المحاضرات والزيارات والنزهات والتفاعل الكثير أقضي فيه رمضان والعيد وسط مجموعة من الصحفيين الأجانب غير المسلمين على الأغلب لأكون الصائمة الوحيدة بينهم. المسلمان الوحيدان غيري من أفغانستان وتركيا لم يكونا صائمين ولم يجديا نفعاً لي في تلك التجربة.
كانت أول مرة أعيش فيها تجربة أن أكون أقليّة. أعيش بنظام مختلف عن السائد. البرنامج يبدأ في السابعة صباحاً أحياناً والفجر في الخامسة، إما أصحو للسحور والصلاة فأتأخر عن اللحاق بالمجموعة أو أفوتهما (السحور على الأقل) فألتزم. لم يكن الطعام رائعاً على أية حال فحيث أقيم في مدينة سانت بول يوجد القليل من اللحوم "الحلال" أو حتى "الكوشر".
عشت أياماً على البيتزا والسلطة والفاكهة ومنتجات الألبان، والجوع لا ينتهي، حتى جاءتني أسرة أمريكية بخزين لحم حلال مطهو من مطعم فلسطيني أهدوه لي بعد دعوتي على العشاء في منزلهم الفخم. الزوج قِس والزوجة صحفية وإن تقاعدت مبكراً. أوصلتني يوماً إلى حفل إفطار إسلامي لإحدى المنظمات الأمريكية الإسلامية رغم بُعد المسافة وجاءت لتقلني إلى سكني بعد بضع ساعات. عرّفوني على أسرة أخرى، الزوج فيها مسلم من أصل باكستاني وزوجته أمريكية مسيحية، اللذان عرفاني بدورهما على أسرة مسلمة أكلت كثيراً في بيتها وأهدوني باقي الطعام.
لم يضايقني أبداً أن الجميع يأكلون حولي، بل ضايقني عدم استطاعتي مشاركتهم. تخيل أنكم تجلسون على المائدة لتناول الغداء مثلاً وأنت لا تأكل. أين ستنظر؟ قد يبدو السؤال مضحكاً، لكن صدقاً أين ستنظر؟ هل ستتأملهم وهم يأكلون؟ هل ستنظر إلى أطباقهم؟ إلى السقف؟ إلى الحائط؟ إلى الهاتف؟ لن تجلس بعيداً حتى ينتهوا على أية حال، وما يزيد الأمر سوءاً إن وجدت الخمور تنزل على المائدة. من حقهم الشرب حسب ما يعتقدون، ومن حقي أن أعيش روح رمضان.
كنت أنظر إلى السماء كثيراً متلمسة لون الشمس في الأفق، أتابع الساعة لأعرف مواعيد الصلاة فأنزوي في ركن أصلي بين الفعاليات التي نحضرها، أحافظ على نفس الوضوء طيلة اليوم قدر الإمكان حتى تكون الصلاة سريعة، أتناول في السيارة التي تقلنا إلى موعدنا التالي ثمرة فاكهة أو شيبسي بعد مضي بضع دقائق على موعد الأذان ثم آكل وحدي عند العودة بعد مضي ساعتين أو ثلاث من موعد الإفطار أو يكون طعامي هو طعام العشاء الذي سنجتمع حوله فألجأ إلى المأكولات البحرية التي تسعفني أحياناً إن كانت شهية.
أذكر في مرة وصلني صحن مليء بالجمبري المثلج كبير الحجم. كان شديد البياض وكان طعمه مقززاً. انزويت وبكيت وحدي. بدوت غريبة للمجموعة حتى إن زميلاً صحفياً من المجر قال لي أمامهم: "حنان، أنت معقدة".
كنت أسمع أغنية هشام عباس وابتهال النقشبندي "ماشي في نور الله" وأبكي كثيراً شوقاً إلى روح رمضان التي أفتقدها وألماً من واقع لا يمت لها بصلة. شعرت بالوحدة والغربة والشفقة مما وضعت فيه نفسي لكن رحمة الله كانت قريبة.
في النصف الثاني من ذاك الرمضان، هدأت نفسي كثيراً ولم أعد أبكي، بل تسرب إليّ ألم قرب انتهاء التجربة. رحلة إلى الله بحق قطعتها وسط أناس لا يلتزمون بما ألتزم به في هذا الوقت ولا يشاركونني المعتقد. رحلة عن اختيار لا عن تقليد وسط صحبة لا يصوم فيها أحد.
هذه الحرية ربما لا نستشعرها في بلادنا، فالكل يصوم والروح تعم والأجواء تساعد. ولأنه من غير الشائع أن تعتكف النساء في المساجد في بلادنا، قررت أن أفعل لأحيي التجربة في نفسي كل عام.. تجربة الوحدة والغربة والاختيار لا التقليد وحتى لا أنسى ما عشت.
السلطان حسن
في عامي الأول اعتكفت في جامع السلطان حسن الأحب إلى قلبي. اعتدت أن أجهز طعامي البسيط وأنطلق لأفطر وحدي في ساحة المسجد ثم أدخل للصلاة وأمكث حتى الفجر أو الشروق ومعي التمر واللبن طعام السحور. حولي الكثيرون لكني لا أعرف أحداً وبالتالي لا كلام إلا العابر. قد يستكثر البعض هذه الساعات الطويلة لكنها صدقاً تمر سريعاً ولا تكفي كل ما نويت فعله من عبادات أياً كانت. ربما تستلقي على ظهرك فقط وتنظر إلى السماء الصافية والنجوم المتلألئة وتناجي الله.
كان الجامع ملاذي لثلاث أو أربع سنوات حتى أغلقوه بعد التراويح. ذهبت أحياناً إلى الجامع الأزهر وأحياناً إلى جامع عمرو بن العاص وأخيراً إلى جامع دار الفائزين في المعادي حيث أسكن. مشكلة الجوامع الكبيرة هي ضجيج الأطفال الذي يشوش عليك. بعض الأصدقاء دعوتهم لصحبتي واستجابوا لكني في معظم الوقت كنت وحدي عن اختيار وقد أورثت هذه العادة الحسنة، وهي في الأصل سنة، ما أورثته في قلبي حتى إني أبكي منذ 2020 على إغلاق الجوامع وتفويت الفرص، فنحن في هذا الوقت وفي بيوت الله نقطع أشواطاً إلى الله هرولة ونكتسب مدداً من حيث لا نحتسب يُرى بعد رمضان إلى رمضان الذي يليه.. موعد الشحن.
افتحوا المساجد. غالية هي الحرية، والقرب اختيار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.