أستاذي البريطاني يرفض لقب دكتور وفي مصر الجميع “باشاوات”.. تجربتي مع فوضى الألقاب

عربي بوست
تم النشر: 2022/04/18 الساعة 11:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/18 الساعة 11:38 بتوقيت غرينتش

ذهبت لإنجلترا قبل عشر سنوات وكنت أعلم أن الألقاب لا تستخدم في الحوارات الشخصية، وأنها مقصورة على السياقات الرسمية، إلا أنني وبحكم ثقافتي المصرية  لم أستطِع منع نفسي من مخاطبة المشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة بي باسمه مجرداً وفضلت استخدام لقب "دكتور" وكان اسمه بول.

وعندما خاطبته بـ"دكتور بول" لأول مرة في أول لقاء بيننا، تغاضى الأستاذ الكبير عن اللقب، لكن بدا أنه لم يكن مرتاحاً له. وفي اللقاء الثاني، تأكدت أنه يفضل أن يُنادى باسمه مجرداً دون ألقاب، وبدأت في مناداته كما يحب. 

وعشت خمس سنوات في بلاد الإنجليز لا أستخدم لقباً لي أو لغيري، وتوقعت عند عودتي أنني سأعاني لأستعيد التعود على لقب "دكتور" ومناداة كل الناس بألقابهم وما يسبقها من ألقاب فرعية تتنوع بتنوع السجل اللغوي بما يتناسب مع طبيعة الوظائف (إدارية، دينية، أكاديمية، إلخ…) مثل "سعادة" و"فضيلة" و"معالي".

قلت لنفسي، ستتعود سريعاً على لقب "دكتور"، لكنني وجدت من يقول لي "حمد لله على السلامة يا (بروف)" فهالني التصاعد في الألقاب دون الحصول عليها من الأساس، ووجدت أن هذا شأن عام، فكيف تطورت صناعة الألقاب في مصر ولماذا؟ 

بداية أؤكد أنه لا عيب في استخدام الألقاب العلمية أو الاجتماعية أو الدينية، لكن يجب ألا نبالغ في استخدامها في كل كبيرة وصغيرة وألا نخرجها عن إطارها وألا نعطي لقباً لمن لا يستحق، خاصة الألقاب العلمية. 

لا يخفى على أحد أن ثورة يوليو/تموز قد ألغت الألقاب الملكية من منطلق المساواة بين البشر، لكن ضباطها منحوا أنفسهم ألقاباً عسكرية لم يستحقوها ثم عادوا هم أنفسهم للألقاب الملكية فصار لهم النوعان من الألقاب، العسكرية والملكية مثل (سعادة الباشا اللواء). ثم توسع المجتمع في منح هذه الألقاب الملكية لكل "من هب ودب" صار أي "أستاذ" في أتوبيس عام "بيه". 

يعني هذا أن حب الألقاب متأصل لدى كل المصريين، وهو ما نراه في إطلاق لقب "دكتور" على طالب كلية الطب والصيدلاني وأخصائي العلاج الطبيعي، في حين لم يصل أي من هؤلاء لمرحلة الدكتوراه أو لا تخولهم وظائفهم قانونية استخدامها. 

ونرى لقب "مستشار" وقد مُنِحَ لكل من دخل سلك النيابة والقضاء أياً كانت درجته (معاون نيابة، أو وكيل نيابة، أو رئيس نيابة، أو قاضٍ) قبل أن يُمْنَحَ – في غياب أي من ممثلي سلك القضاء والنيابة – لجموع المحامين، وخاصة محامي النقض.

ونرى كذلك لقب "الباشمهندس" وقد انهارت دلالته بعد أن انفرد به لأول مرة في تاريخ مصر علي مبارك الذي جمع بين لقب "باشا" الملكي ولقب "مهندس" العلمي فصار – بحق – "باشمهندس". ألا يستخدم هذا اللقب الآن مع "طوب الأرض"، دون أن يكون لهم نصيب لا في الباشوية ولا الهندسة؟ 

نعود الآن للقب "دكتور" الذي طمع فيه كثير ممن أرادوه ليكبحوا به سخط مرؤوسيهم عليهم أو ليرتقوا بها على زملائهم في وظائفهم. فصرنا نرى دكاترة في المدارس ومديريات الصحة والتعليم والزراعة، إلخ… ولا عيب – طبعاً – في مناداة كل هؤلاء بلقب "دكتور" طالما استحقه من خلال دراسات عليا أكاديمية بجامعات تلتزم بالقانون، لكن العيب في منح هذه الدرجات العلمية لمن لا يستحقون، فقط بسبب توصية عليهم أو لأنهم أقارب و"محاسيب" بعض أساتذة الجامعات في مناصب عليا بها. والعيب كذلك في أن يُلَقَّب بهذا اللقب من اشترى الدرجة من مواقع إلكترونية تعرض الدرجات على الملأ بحفنة من الدولارات وتتوارى خلف يافطة كبيرة تبدأ باسم "أكاديمية" أو "المركز العالمي" أو "اتحاد نقابات"… إلخ.

وعندما رأى أساتذة الجامعات أن لقبهم الذي كان يعني لهم الكثير من القدسية العلمية قد استحوذ عليه من يستحقه ومن لا يستحقه خارج الجامعة، عرفوا أنه وحده لم يعد مميزاً لهم فباتوا يخاطبون بعضهم البعض بلقب أكاديمي آخر وهو "بروف" (ومعناه أستاذ دكتور)، وهو أرقى من "دكتور" غير أنه بعيد المنال في تخصصات كثيرة، وكأنهم بهذا قد ضمنوا لقباً لا سبيل إليه إلا بكثير من البحث والنشر والمصاريف و"حرقة الدم"، وقد ضمنوا كذلك أنه لا سبيل  لغيرهم إليه لأنه – حتى الآن –  مقصور على الجامعات أو مراكز البحوث. وربما قد وجد أساتذة الجامعات في لقب "بروف" تمييزاً لهم عن تلاميذهم الأصغر سناً من المعيدين والمدرسين المساعدين الذين يلقبهم الطلاب بلقب "دكتور" كذلك. 

ولكن ماذا عن "البروفس" الحقيقيين، أي الأساتذة الحقيقيين ممن حصلوا على لقب "أستاذ دكتور"؟

إن كان أي من هؤلاء في منصب قيادي، فحتماً قد سبق لقبه أحد الألقاب التشريفية مثل "سعادة" أو "فخامة" أو "معالي" قبل المنصب (مثل: سعادة العميد، أو معالي رئيس الجامعة). هذا بالنسبة للأناس الطبيعيين، أما المنتفعون "الملكيون أكثر من الملك" فقد أضافوا لهؤلاء ألقاباً أخرى منها "سعادة الوزير" أو حتى "سعادة الريس"، ليس حباً فيهم، ولكن طمعاً فيما لديهم. أما الأساتذة الذين لا يترأسون مؤسسة علمية أو تعليمية فلا يملكون غير دعوات طلابهم التي لا تشمل "سعادة" أو "معالي"، وكفى بهذه الدعوات نعمة.

ولئن تساءلت عن "ريس" التي تستخدم أيضاً مع البواب والفكهاني وسائق الميكروباص، سأقول لك: لا تنس أن رحلة الألقاب رحلة عجيبة لا تغطيها مقالة صغيرة وإنما تحتاج لمؤلفات كاملة ودراسة مستفيضة تكشف جوانبها اللغوية والاجتماعية والنفسية في أي مجتمع.  

ويكفي أن أختم هنا بتأكيد قناعتي بأن استخدام أي لقب يتضمن عبئاً قبل التشريف الذي قد يكتنفه مثل لقب "دكتور" الذي يوحي بامتلاك ناصية علم من العلوم والتخصص الدقيق فيه. ولذا، أتمنى أن نستخدم الألقاب في محلها دون مبالغة حتى لا تفقد قيمتها مع الزمن، وأدرك أن رغبتي يقف في مقابلها تغير أنماط الحياة ومنها تغير السلوك اللغوي، وهذه من طبيعة البشر التي لا تكف عن التغيير. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سعودي صادق
كاتب ومترجم مصري
كاتب ومترجم مصري
تحميل المزيد