رمضان في السجن غير، رمضان في السجن مشقة، وانفعال، وعاطفة، وظُلم، وحب. رمضان خارج السجن يختلف عن رمضان بداخله، ورمضان العقرب (نسبة إلى سجن العقرب سيئ السمعة) يختلف عن رمضان الوادي الجديد (نسبة لسجن الوادي الجديد)، ورمضان برج العرب يختلف عن رمضان طرة، فلكل سجن رمضان الخاص به. ولكل سجن حكاية عن رمضان، فتارة يصبح رمضان السجن بدون زيارة، وتارة أخرى يصبح رمضان السجن دون رمضان!
قبل يوم من الزيارة
بداخل منزل طفولتي، بدأت أمي وأختاي بالتجهيز لزيارتي والسفر في رحلة الصعيد الشاقة من خلال تدبير المال اللازم لشراء بعض الإحتياجات والمُستلزمات الشخصية، وإيداع مبلغ من المال في أمانات السجن، ومصاريف رحلة العذاب ذهاباً وإياباً من أجل رؤيتي والاطمئنان عليّ.
ذهبت أختاي بعد الإفطار لشراء بعض المأكولات والملابس والأدوية ومُستلزمات النظافة الشخصية، وكنت وصيتهم فى الزيارة السابقة بإحضار كتاب أو رواية ما ومُحاولة السماح بإدخالهم بالرشوة أو بإقناع الضابط المسؤول عن الزيارة.
تبدأ والدتي بطهي الطعام وتعبئته في علب بلاستيكية، وتقوم أختاي بترتيب شنطة الزيارة ثم يقمن بارتداء ملابسهن، والاتصال بأحد أصدقائي كي يحضر قبيل الفجر لقيادة السيارة والذهاب معهم إلى موقع السجن الحصين في الجنوب.
كانت رحلة الزيارة تأخذ ما يقرب من الأربع ساعات في جو شديد الحرارة وزاد عليه شهر رمضان وصيامه فزادت المشقة.
عند وصولهم إلى البوابة المركزية، قامت أمي وأختاي بحمل شنط الزيارة والتوجه لتسجيل حضورهن لزيارتي، وتبدأ مُعاناة التفتيش على البوابة المركزية، ثم يأتي "الطفطف" لإيصالهن من أمام بوابة السجن، حيث ينتظرن لبضع ساعات تحت لهيب الشمس المحرقة وحرارة الجو الشديدة دون وجود مكان مُلائم لهم للانتظار، فقمن مع باقي النساء بافتراش الأرض الرملية والجلوس عليها انتظاراً للنداء عليهن.
وبعد مرور ساعات من الانتظار تم النداء على اسمي، وبدأت والدتي وأختاي بالدخول إلى بوابة السجن الصغير.
زنزانة انفرادية
في تمام الساعة التاسعة مساءً، استفقت من نومي على صوت مُسير عنبر 5 الجنائي، وكان يدعى مصطفى، أبلغني من خلال الهواية، وهي باب حديدي يحتوي على العديد من فتحات التهوية ومُتصل بباب حديدي خارجياً قابل للغلق والفتح من قبل السجين، بتواجد اسمي في كشوف الزيارة وبلغني بالتعليمات المُعتادة، ارتداء السُّترة الميري ذات اللون الكُحلي الباهت التي تُميز زي السُّجناء المحكومين، وحلاقة الشعر. تركني ذاهباً لاستكمال مهمته بإبلاغ باقي السُّجناء بالزيارة.
ينقسم السجن إلى ثمانية عنابر للاحتجاز الجماعي وخلفهم عنبر التأديب، تنقسم العنابر باتصال كُل عنبرين بجانب بعضهما على شكل حرف، وبينهما أرض زراعية أو طينية، ويتكون كل عنبر من ثلاثة أدوار مُقسمة إلى نصفين "رُبعين"، (رُبع أ) و(ربع ب)، ويحتوي (رُبع أ) على 23 زنزانة ويحتوي (ربُع ب) على 17 زنزانة. أما عنبر التأديب فهو عنبر مهيب ويقع مُنفرداً صامتاً مُحذراً من الاقتراب منه لهول ما بداخله.
بدأت ارتداء سُترتي الكُحلية ووضعت بعضاً من العطر المُهرب، ووضعت العلب البلاستيكية الفارغة في كيس بلاستيكي لإعطائه لأهلي. وقام بعض السُّجناء بتسليم الجوابات لي في الخفاء كي تصل لأهلهم. قمت بوضع الجوابات داخل ملابسي الداخلية، ولم أقم بحلاقة شعر رأسي وذهبت إلى بهو العنبر حاملاً معي مُجسماً للكعبة الذي قمت بشرائه من أحد السُّجناء بخمسين جنيهاً من بونات السجن. كان السُّجناء يتشكلون في طابور يبدأ بالسجناء الجنائيين وينتهي بالسجناء السياسيين، ويحمل كُل منهم هدية مُعبرة عن شهر رمضان من مُجسمات المساجد والكعبة، والسُبح الخرز، وبوكيهات الورد المصنوعة من ورق الكروشيه.
جاء مُسَيِّر العنبر ومعه الشاويش والمُخبر للتأكد من عدد السُجناء بأسمائهم والتحرك معهم تجاه بوابة العنبر وفى نفس التوقيت يتحرك باقى الُسجناء فى توقيت واحد ناحية ساحة الزيارة بالقرب من المبنى الإداري. يقوم الضابط المسئول عن الزيارة بتوجيه التنبيهات بعدم ارتكاب مُخالفات أثناء الزيارة حتى لا يتم (مسح كرامة السجين في نهار رمضان وعنبر التأديب ليس ببعيد)، على حسب تعبيره.
قاعة الزيارة
دخلت إلى قاعة الزيارة باحثاً عن والدتي، وكانت القاعة مكتظة، وحين رأيتها قبلتها هي وأختاي وقمت بإهدائهن مجسم الكعبة وبعض الحظاظات المصنوعة من الخيوط. وبدأت والدتي إمساك يدي وتحريك يداها على جسدي من اشتياقها لي، مع استمرار دعواتها بالخروج معهم وسط دموعها المُنهمرة. كنت في ذلك الوقت أحاول جاهداً طمأنتها بأنني بخير حال وأنها مسألة وقت.
كنت أرى عينيها تركز على تفاصيلي وملامحي وتنظر إلى السجانين من المُخبرين والضباط وكأنها تقول لهم دعوه يخرج كي يتسحر معي. لم تكن تحكي لي عن مأساتهم في الزيارة وإن كنت أعلمها جيداً.
وكي تجعلني ابتسم، أخبرتني بأنها استطاعت إدخال كتاب ورواية من خلال إعطاء مبلغ من المال لمُخبر التفتيش، وكانت تخبرني عن طعام الإفطار التي قامت بإعداده لي والمشروبات الرمضانية التي أحضرتها، وعن رفضها لدعوات الخروج للعزومات برمضان بسبب افتقادي. كنت أرى سجيناً يحمل ابنته ويعطي لها فانوس رمضان ويحتضن زوجته، ووالدة سجين آخر تبكي، وسجين يغني لأطفاله ويحدثهم عن عاداتهم في رمضان، وابنة سجين تطلب من أبيها أن يخرج معهم للبيت والسحور معهم، وكان بعض الأطفال يحملون فوانيس رمضان المُهداة من اَبائهم السجناء ويغنون "وحوي يا وحوي".
حين أتى موعد انتهاء الزيارة، وبدأت الصافرات، وبدأ المُخبرين بإبطال المراوح في قاعة الزيارة لإكراه الأهالي على المُغادرة، بدأت توديع والدتي وأختاي وسط تمنياتهم لي بالخروج وكانت والدتي لا تترك يدي.
وحين تباطأ السجناء بدأ المُخبرون التدخل بنزع السجناء من أهاليهم، فكنت أسمع بكاء بعض الأطفال وصراخ التوديع بين الجميع. وفي هذا الوقت كانت الأجساد الملتحمة تبدأ في التحرك بعيداً بين أهالي مُجبرين على ترك أبنائهم والسير إلى خارج السجن، وسجناء مُجبرين على ترك أهلهم والسير إلى داخل السجن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.