تهبُّ نسمة التغيير معلنة نهاية موسم ما وبداية موسم آخر، وكما تُزهر الورود معلنةً فصل الربيع، فموسمنا هذا (شهر رمضان) له طقوس خاصة، فمثلاً بعد وقت الغروب وبينما أتمشى بين الدرابين البغدادية التي تكون ضيقة نوعاً ما، وتتراصف الشناشيل البغدادية في أعلاها، التي لشدة قِدمها تتخيل للوهلة الأولى أنها ستحطم رأسك، لكنها لحسن الحظ تسند نفسها وتقاوم تزاحم السنين عليها. ومن الأسفل الأرض مغطاة بالحجر المقرنص المتماسك، ويشقه من الوسط ممر مائي تنساب منه مياه الأمطار بعد هطولها، ويزين الشناشيل نشرات ضوئية يتدلى منها هلال يتوسطه نجمة بلون يبعث الطمأنينة.
ويعلق على الأبواب الخشبية فانوس بألوانه الزاهية الجميلة، ويتراكض أطفال الدربونة وهم يلبسون دشاديش بيضاء اللون، ويصادفني كالعادة أبو رامي، أحييه فيردّ قائلاً: "شنو ما دريت رمضان إجانا.. كل عام وانت بخير ابني"، وتتعالى شيئاً فشيئاً أصوات عذبة تقرأ القرآن بصوت الحصري والمنشاوي وعبد الباسط، تخلق جواً إيمانياً روحانياً لا يعوضه شيء، معلنة بذلك بدء رمضان.
يبدأ صوت الأذان معلناً بدء صلاة التراويح، فيهمُّ لها الرجال والنساء، وتدخل الأمهات والزوجات إلى المطبخ ليتفننّ في صناعة الحلويات، ففي العراق طبق الحلوى مقدس جداً، خصوصاً في رمضان، فيصنعن البقلاوة وزنود الست والزلابية وحلاوة الشعرية وحلاوة التمر والكليجة، إلا أن الأخيرة يتزامن ظهورها مع اقتراب العيد أكثر، عزيزي الصائم أنت هنا مصاب بالسكري لا محالة.
ولكي لا ننسى المشروبات الرمضانية فمنها عصير الزبيب والرمان والتمر الهندي وعصير النومي بصرة، لكن من له نصيب الأسد من الحب والإقبال هو عصير الزبيب، شراب الملوك، فالطوابير تزدحم قبل الفطور على محلات "الحاج زبالة"، وهو أقدم محال لبيع عصير الزبيب، الذي يمتاز بنكهته الخاصة، ولا ننسى ملك مائدة الإفطار وهي "شوربة العدس"، ونطلق عليها بطل المائدة؛ كون أمهاتنا يبدأن أول يوم بما لذَّ وطاب من الأطباق، وتبدأ هذه الأطباق بالاختفاء تدريجياً إلى أن تصل اليوم الأخير بأطباق الشوربة فقط، وبعد منتصف الليل يمارس المسرحجي عمله بضرب الدف، والمشي بين الشوارع، مردداً "سحور.. سحور يا صايم وحد الدايم".
ومن جمالية هذا الشهر أن يقلَّ فيه العمل ويزداد معه وقت العائلة والأقارب والأصحاب، ففي الفطور يلتقي الأحبّة على مائدة الإفطار، وتجتمع العائلة بعد تشتتها، وبعد انتهاء صلاة التراويح يبدأ الرجال بالانتشار، وتبدأ بطولات "المحيبس" في المقاهي، وتلعب الطاولة والدومنة، وتتزاور الأمهات والخالات فيما بينهن، فالنميمة المتوقفة في فترة النهار يجب أن تُعوّض في حصص المساء.
ورغم كل هذه الأجواء العائلية الدافئة فإن رمضان في العراق بدأ يفقد جوهره الأصلي المتعارف عليه، مثل كونه شهر العبادة والطاعة، وتغيير سلوكيات الفرد إلى الأفضل، فقاموا بتسليع رمضان، أي التعامل مع رمضان وكأنه شهر للاستهلاك، فالمنتجات والأطعمة الجديدة تتزاحم في الأسواق خلال رمضان، ومع ازدياد الطلب على الطعام تبدأ الأسعار بالصعود، ويستغلّ تجار الأزمات هذا الشهر الفضيل، وتبدأ الأمهات بتخزين كل شيء (تمور، أرز، زيت الطعام، زيت السيارات والطائرات)، وأي شيء قابل للتخزين!
الدعاية والمسلسلات أغلبها تصدر في رمضان، وكأن المنتجين لا يملكون إلا هذا الشهر! وبرامج المقالب والكاميرا الخفية التي لا داعي لها، لا أعلم أين تكمن المتعة في ترويع الضيف والتنكيل به وإضحاك الجمهور عليه!
وانتشرت مؤخراً ظاهرة البوفيه المفتوح، أي أن تدفع مبلغاً معيناً وتملأ بطنك حتى الرمق الأخير، وتشاهد أغلب الطعام يبقى ويكون مصيره سلة المهملات، وهذا في قمة التبذير والإسراف "أكل حتى الفجر، نوم حتى الظهر، عراك حتى العصر، ترقب حتى المغرب"، كما علّق محمد عفيفي ساخراً من مآلات التحديث الرمضاني الجديد.
لكن نعود لنحمد الله على الشهر الكريم، ونقول إنه ما زال رمضان بخير، وما زالت عاداتنا وتقاليدنا بخير، وما زال القسم الأكبر من الناس يستغلّ هذا الشهر الفضيل في التقرّب من الله، وتصفية النفوس من بواطنها، ورواكد الذنوب، وتنقية القلوب كتنقية الثوب الأبيض من الدنس.
ابتهالات، دعوات، بكاء، كلها تتزاحم وترتفع إلى السماء مرة واحدة، وقرآن لا ينقطع، وذكر لا ينفد، وشكر وحمد لا يُحصى أبداً، فما زال رمضان بابه مفتوحاً لكل توبة تقبل وتغتفر، وأبواب السماء مفتوحة، فارفع في صحيفة أعمالك ما شئت، وامْحُ منها ما شئت، والعبادات متنوعة في هذا الشهر الفضيل فاستغلّها، لعلك لا تدرك رمضان القادم، اللهم سلِّمنا لرمضان وسلِّم رمضانَ لنا وتسلَّمه منا متقبلاً يا رب العالمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.