أصبح الحديث عن منظومة القيم جزءاً لا يتجزأ عن كل موضوعات النهوض الحضاري، فلا ينكر عاقل أن من أسس بناء الحضارات وصمودها اهتمامها بمجال التربية والتعليم، ولابدَّ لهذا المجال أن يكون مؤطراً بمنظومة من القيم الإنسانية العليا.
قد نتفق على أن تكون تلك القيم كونية إنسانية لا تحابي مسلماً وغير مسلم، لكن الاختلاف القائم بين مدارس التربية يكمن في مرجعياتها.
الدول المسلمة مثلاً تتناول هذه القيم من منظور ديني، فكتاب الله وسنة نبيه كسيرته، تزخر كلها بالقيم الإنسانية السامية التي وجب تلقينها في المدارس حتى يستوعب أطفالنا أن هذا الدين كله رحمة، وأسس على قيم العدل والكرامة، وليست حقيقته ما تروج له وسائل الإعلام الغربية بأنه دين إجرام وسفك دماء.
المدارس الغربية كذلك تختلف مرجعياتها والأسس التي تنطلق منها، فإذا كانت الدول الآسيوية تأثرت تاريخيّاً بما يسمى بالكونفوشيوسية، فإن الدول الأوروبية جلُّها متأثر بالثقافة العلمانية مثل فرنسا، فهل فعلاً فرنسا دولة تتناول القيم من جانبٍ إنساني كوني بعيداً عن التعصب؟
التربية المدنية مادة مهمة في البرنامج التعليمي الفرنسي، تهدف إلى تربية التلاميذ الفرنكوفونيين على مجموعة من القيم بعيداً عن كل ما هو ديني، ومن القيم التي اتخذتها شعاراً للجمهورية: حرية، مساواة، أخوة.
ترفع فرنسا في كل المناسبات شعارات فضفاضة، توحي بأنها دولة قيم وحقوق تحترم، لكن تصريحات سياسييها وسياساتها المجحفة في حق المسلمين لا تعكس ذلك، وفي الوقت الذي يكتب فيه هذا المقال تشهد فرنسا انتخابات رئاسية، في بداياتها هزم أكثر المرشحين احتراماً للمسلمين والمهاجرين في خطاباته، وظلت المنافسة محصورة بين أكثر المرشحين كرهاً وعداء للإسلام، ماكرون الذي هاجم الإسلام في أكثر ما من مرة، وفي ولايته تم إغلاق مساجد وطرد المحجبات من المدارس، ومارين لوبان التي صرحت علناً في خطابها بأنها ستمنع ارتداء الحجاب، وستفرض عقوبات زجرية على مرتدياته.
حصول سياسيين معاديين للإسلام في فرنسا على هذا الكم من الأصوات، يعكس حقيقة العمق الفرنسي الذي يحمل ضغينة لهذا الدين، الأمر الذي تغذيه وسائل الإعلام كلما سنحت لها الفرصة، والوقت السانح لها كثير.
ففي فرنسا يرفع شعار الحرية، في الوقت ذاته الذي يمنع على المسلمين ممارسة شعائرهم الدينية. ويرفع شعار العلمانية، في الوقت نفسه الذي تهاجم فيه المدارس الفرنسية الإسلام، وتروج له بأنه دين دماء ودمار. ويرفع شعار الاحترام، في الوقت عينه الذي لا تحترم فيه مدارس البعثة الفرنسية المرجعية الدينية للدول التي تتواجد فيها.
وترفع شعارات العدل والمساواة.. تماماً في الوقت نفسه الذي يقصي فيه أكاديميون من تولي مهام ومناصب لمجرد أنهم يعتنقون الإسلام. هو تناقض صارخ إذن بين شعارات وقيم يتغنى بها، وبين واقع مرير تنتهك فيه حقوق فئة لمجرد أنهم ينتمون لدين الإسلام، الذي بينه وبين فرنسا- في نظرها- عداء تاريخي.
والغرب ليس كله عدائيّاً اتجاه الإسلام والمسلمين، ففي الوقت الذي تخوض ضده فرنسا حرباً ضروساً، نجد أن في دول أخرى تحترم المحجبة ولا تنتهك حقوق المسلم، فسنغافورة اختارت في فترةٍ من الفترات محجبة مسلمة هي حليمة يعقوب لترؤسها، رغم أنها دولة ليست بالمسلمة؛ إنما بلد متعدد الديانات بسبب الخليط العرقي المتواجد فيه، ولا يشكل المسلمون فيه سوى 14%، وفي إنجلترا تم اختيار سلطانة تافادار وهي مسلمة محجبة لتكون أول محامية محجبة تصبح "مستشار الملكة" وهو أعلى منصب لمحامٍ بإنجلترا.
وبعيداً عن الحجاب، في دول غربية تحترم الإنسان لا حرج أن يمارس المسلم شعائره الدينية دون تضييق، ولا مانع من أن يتولى منصباً شخصٌ مسلمٌ ما دام ذا كفاءة علمية ومهنية تسمح بذلك.. هي دول رغم ما قد نراه أحياناً فيها من تضييق على المسلمين من طرف البعض من مواطنيها، لكن ذلك لا يمنع كونها مقارنة بفرنسا دولاً يحق لها أن ترفع الشعارات الرنانة وأن تقول إنها دول تؤمن بمنظومة قيم إنسانية كونية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.