لم تقدم أرض الإغريق للعالم الأساطير والملاحم الخرافية التي خلّدتها الإلياذة والأوديسة وأشعار هوميروس الفريدة فحسب، بل حفلت الحياة أيضاً في ذلك الوقت بالأفكار والأحداث والمواقف، التي شكّلت فيما بعد جزءاً من التراث الفكري الغربي والعالمي ككل، وكان فيها من العبر والحكم وحتى الطرفة ما يمثل زاداً للعقل ونزهة للروح، ومن بين الصفحات التاريخية التي استوقفتني كثيراً بصفتي مهتماً بالفكر السياسي وتطوره، ولكوني مدرساً له في الجامعة طيلة سنوات، تلك الجدلية بين كبار معلمي اليونان وتلامذتهم، وخاصة ما بين أفلاطون وأرسطو من جهة، وهذا الأخير والإسكندر المقدوني من جهة ثانية، فما وقائع وتفاصيل تلك الجدلية التي تحمل من المعاني والدلالات الكثير والكثير؟
بعيداً عن نسجه خيوط مدينته الفاضلة التي كان لها الفضل في منحه شهرته حتى بين عوام الناس ممن لا يملكون القدرة على الغوص في آرائه الفلسفية المتشعبة، كان أفلاطون معلماً بارعاً، جمع في أكاديميته خيرة فتيان اليونان، سواء من الأثينيين أو ما عداهم من الوافدين من مناطق أخرى، كان أبرزهم ابن مستعمرة ستاغيرا "أرسطو"، ذلك الشاب المغامر المتقد حماسة للنهل من ثقافة أثينا، زينة المدائن آنذاك، والمتحمس ليكون تلميذاً مخلصاً بين يدي أفلاطون، الذي لا يدانيه أحد في أفكاره وفلسفته في ذلك الوقت، ولكن الفتى الستاغيري لم يطُل به الزمن ليبدأ باستكشاف ذاته المستقلة فكرياً، الراغبة في شقّ دربها الخاص نحو أنماط ومناهج التفكير الفلسفي، وما فتئت النزعة الحرة لصاحب الأخلاق النيقوماخية أن تحولت إلى تمرد صريح على تعاليم أستاذه أفلاطون ومنهجه، وجاهر بمعارضته المنهج الاستنباطي القائم على الانتقال من الكل إلى الجزء، واعتماد عالم المثل مستوى للتحليل الذي تبنّاه أفلاطون، ونُعِت بسببه بالمثالي، ونادى بمقابل ذلك بجعل المنهج الاستقرائي المنطلق في التحليل من الجزء إلى الكل، وتبنّي الواقع المعاش والممكن تحليله بالملاحظة، مستوى للتحليل، وأساساً للوصول إلى المعرفة، لم يرُق ذلك طبعاً لأفلاطون، الذي أحسّ بأنَّ تلميذه الجاحد يحاول إطاحته من علياء عرش فلسفة اليونان، فقال للمخلصين من أتباعه "لقد ركلنا أرسطو كما يرفس المهر أمه"، وصل ذلك إلى مسامع التلميذ الذي بدأ يخط لنفسه درباً خاصاً به بصفته معلماً ألمعياً في أثينا، وما كان منه إلا أن ردّ بهدوء "أفلاطون عزيزٌ عليّ، ولكن الحقيقة أعز".
لم تمر هذه الواقعة التاريخية دون أن تُلهم أحد كبار فنّاني عصر النهضة الرسام الإيطالي رافاييل، الذي رسم لوحته الشهيرة "مدرسة أثينا"، التي ضمت أعظم فلاسفة البشرية، وكان كل من أفلاطون العجوز وأرسطو الشاب يتوسطان اللوحة، وبينما أشار أفلاطون بإصبعه إلى السماء كان أرسطو يشير به نحو الأرض، في رمزية للمنهجية المثالية للأول، والواقعية للثاني، ومع ذلك لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض فيها أفلاطون للتنكر من طرف تلامذته، فقبل سنوات توجّه إلى بلاط الملك الشاب "ديونيسيوس الثاني" حاكم صقلية، مضطلعاً بدور المعلم والموجه للملك الجديد، محاولاً أن يجعل منه صورة مثلى مجسدة لفكرته عن الحاكم الفيلسوف المتسم بالحكمة، ولكن الملك الشاب ضاق ذرعاً بمعلمه المتطلب، وما كان من أفلاطون إلا أن غادر نحو أثينا يجر أذيال الجحود والهزيمة.
دار الزمان ومرت الأيام، وتوفي أفلاطون وبقي أرسطو متربعاً على عرش الفلسفة الهيلينية، وتزامن ذلك مع بدايات بزوغ نجم الإسكندر الأكبر، الذي انتدب والده فيليب أرسطو ليكون معلماً لولده الطموح، والذي أصبح لاحقاً حاكماً لمقدونيا، وكان أرسطو حريصاً على تلقين الإسكندر القيم الهيلينية التقليدية، وحب دولة المدينة أثينا باعتبارها أفضل ما وصلت إليه العبقرية الإغريقية، ولأنه كما تدين تدان، ولأن كل يشرب من الكأس التي أذاق منها غيره، تمرد الإسكندر على تعاليم معلمه وانتهج نهجاً مخالفاً لها تماماً، فقد كانت صدمة أرسطو كبيرة لأن سقوط أثينا المقدسة بالنسبة إليه كان على يد تلميذه، وبدلاً من اتباع القيم الهيلينية قام الإسكندر بتحطيمها تباعاً، وعلى رأسها مبدأ تفوق الإغريق على غيرهم من الأعراق، بتعويضه لذلك بمبدأ المساواة والأخوة الإنسانية، لينزوي أرسطو في أواخر أيامه وحيداً محزوناً، ينظر لإرث أجداه الفلسفي وهو ينهار تحت وقع ضربات تلميذه الإسكندر، ولعله في عزلته تلك قد استذكر معلمه أفلاطون، وأدرك عمق الجرح الذي سببه له، رغم أن ذلك كان بدافع نصرة الحقيقة، بحسب قوله، ولو على حساب الولاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.