يبدو أن التباساً حدث لسفير المملكة العربية السعودية في لبنان بظنه أن من لبى دعوته للإفطار من ساسة لبنان أتى فرحاً بعودته، بينما الحقيقة أن هؤلاء فرحوا بعودة المال السعودي إلى بيروت عشية الانتخابات النيابية المزمع عقدها في شهر مايو المقبل، أكثر من فرحهم بعودة السفير ودوره السياسي، فساسة لبنان هم من تلامذة واصه باشا الذي رثاه أحد الشعراء بقوله:
رنّوا الفلوس على بلاط ضريحه وأنا الكفيل لكم بردّ حياتهِ
وما نقوله ليس من باب الهزل أو التهكم، لكنها محاولة لإيصال صوت المواطن اللبناني الذي يسأل: لماذا عاد السفير السعودي الآن؟ ما الذي تغير سياسياً ليعود سعادة السفير؟
وهل أصبحت العلاقات الدبلوماسية الرسمية ارتجالية لهذا الحد؟ هل الحرد والعودة عنه مسألة طبيعية في العلاقات الدولية؟
بتاريخ 29/10/2021 أعلنت الحكومة السعودية في بيان مسهب سلسلة تدابير بحق لبنان وعللتها بأسباب كثيرة، وسحبت بعدها سفيرها، لكن اليوم أعادته إلى بيروت علماً بأن أسباب رحيله لم تتبدل بل بقيت الأمور على حالها.
هذه الارتجالية في ممارسة العلاقات الدبلوماسية تدل على أننا في المنطقة العربية ما زلنا نهمش منطق الدولة لصالح المنطق القبلي، وهذا مؤسف حقاً، علماً بأنه لا اعتراض لنا على عودة السفير.
برر السفير السعودي عودته إلى لبنان بإطلاق ورشة عمل "الصندوق السعودي – الفرنسي" المشترك، المخصَّص للدّعم الإنساني وتحقيق الاستقرار والتنمية في لبنان. هذا الصندوق على ما يبدو تم إنشاؤه خلال زيارة الرئيس الفرنسي إلى دول الخليج.
الغريب في الأمر أن لبنان لم يشارك في تلك المحادثات التي أنتجت الصندوق، وهذا انتقاص من سيادة لبنان حتى لو أتى بمنافع وأنشئ عن حسن نية، وهذه سابقة خطرة لم يلفت انتباه السفير لها ساسة لبنان خلال الإفطار الذي جمعهم، ولا حتى رئيس جمهورية هذا البلد عندما زاره سعادة السفير.
لبنان بلا سيادة
هذه ليست المرة الأولى التي تتجاهل فيها الدول الأجنبية الدولة اللبنانية خلال تقديم ما يسمى "مساعدات إلى الشعب اللبناني أو إلى المقيمين على أرضه"، والجدير ذكره في هذا السياق أن المجتمع الدولي حوّل الشعب اللبناني والمقيمين على أرضه إلى جزر من المحتاجين، بحيث تتولى إحدى المنظمات الدولية تقديم المساعدات إلى قسم من الناس وفق مؤشرات تقررها المنظمة الدولية نفسها دون مشاركة الدولة ولا حتى استشارتها.
وتعج البلاد بعشرات المنظمات الدولية التي تجوب لبنان على هواها، وتفرخ العشرات مما يسمى منظمات المجتمع المدني التي تتولى توزيع المساعدات وتنفيذ المشاريع دون أية رقابة من مؤسسات الدولة اللبنانية.
وسيكتمل غياب الدولة مع توقيع اتفاق الحصول على قرض من البنك الدولي الذي سيتولى الإشراف على صرف أموال القرض بالتوازي مع فرض رؤيته للإصلاحات وما على الشرعية اللبنانية سوى البصم خلال ذلك.
ومنذ تأسيس لبنان وحتى اليوم لم تستطع السلطة اللبنانية يوماً أن تحتكر ممارسة القوة على أرضها بل وجد دائماً من يشاركها هذا الأمر حتى بات لبنان غابة للسلاح غير الشرعي وأصبح دور القوى الأمنية الشرعية هو الفصل بين المتقاتلين في حالة النزاعات الداخلية كأنهم قوة طوارئ دولية.
هذا التوصيف المقتضب لحالة لبنان يؤكد أن إجراء الانتخابات النيابية بمثابة لزوم ما لا يلزم، لأن لب المشكلة ليس في منح مؤسسات الدولة الشرعية الشعبية أو تجديدها.
المشكلة الحقيقية هو بالسؤال عن وجود هذه المؤسسات بالفعل؛ لأن الواقع الحقيقي يؤكد أنها مجرد هياكل لا روح فيها ولا سلطة تقرير فعلية لها بل تخضع دائماً لاملاءات خارجة عن إرادتها.
الخلاصة
إن ما نشهده من انحدار في كافة الحقول وفي مختلف المستويات يؤكد أن لبنان اليوم هو "دولة فاشلة" مكتملة الأوصاف، لذلك يمارس سفراء الدول الأجنبية دور المفوض السامي في حراكهم الدبلوماسي على أرضه، دون أي اعتبار للبنان كبلد مستقل أو بلد ذي سيادة، وما زال تماسيح الطغمة الحاكمة يمارسون السياسة وكأن بلدهم بألف خير.
إن الشعب اللبناني هو مجرد مشروع لم يتحقق بعد، أي لا وجود لشعب لبناني واحد في الواقع بل هناك شعوب لبنانية، ولكل شعب منهم رئيس وقادة وزعماء.
هذه حقيقة موضوعية فرضتها الطغمة الحاكمة بنهبها خزينة الدولة وتسكعها على أبواب السفارات العربية والأجنبية، لذلك لم يبق إلا الرحيل عنهم باباً من أبواب الفرج.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.