بالتزامن مع الذكرى العشرين للعملية التي أسمتها إسرائيل "السور الواقي"، والتي كانت عملياً إعادة احتلال كامل للضفة الغربية، شرع الاحتلال بحملة اقتحامات واعتقالات وحصار مشدد لجنين، تستمر ويستمر خلالها سقوط مزيد من الشهداء. يأتي هذا بعد عقدين من معركة مخيم جنين بين المقاتلين الفلسطينيين ذوي التسليح المتواضع، والجيش الإسرائيلي المحترف، والتي دمر خلالها الاحتلال المخيم بشكل وصفه المبعوث الأممي للشرق الأوسط آنذاك تيري رود لارسن بـ"فظاعة تفوق التصور…وكأن زلزالاً ضرب المكان".
يقدم الاحتلال فعله الميداني على أنه عقاب للمدينة التي كان يعمل عليها لتكون نموذجية- احتلالياً-. ففي العام 2008، زارت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندليزا رايس جنين، مشيدة بنموذج الاستقرار والتقدم "المبهر" الذي جاء بعد "الأيام المظلمة عام 2002″، ما أثبت وفق رايس أن كل شيء ممكن. رايس زارت المدينة محملة بحزمة مساعدات ودعم لاستعادة "الهدوء" في جنين التي كانت مركزاً أساسياً لانتفاضة الأقصى، التي شكل مخيمها عصب المواجهة مع الاحتلال في تلك الانتفاضة.
وخلال العقد الماضي، شهدت المدينة انتعاشاً عمرانياً، مدفوعاً بتسهيل إسرائيل تدفق فلسطينيّي الداخل إلى المدينة للتسوق، بواقع أكثر من 20 ألف مركبة أسبوعياً تضخ ملايين الدولارات في السوق المحلية، كما سهلت حصول العمال على "تصاريح عمل" للانخراط في سوق العمل الإسرائيلية. وسهلت حصول مزيد من رجال الأعمال على "تصاريح" حركة ودخول إلى "إسرائيل".
إلى جانب ذلك، أبقت "إسرائيل" عينها مفتوحة على جنين، من أجل "جز العشب" بشكل مستمر، ومنع تشكل حواضن منظمة تستعيد هوية جنين المشتبكة. ولم تنقطع عن ضرباتها المتتابعة للمخيم والمدينة والريف بشكل عام.
إن ما فعلته إسرائيل بجنين، هو انعكاس لعقليتها الاستعمارية، تثبيت الاستثناء في العقل الاجتماعي الفلسطيني، وهذا ما يمثله الإغلاق والحرمان والمنع، وتقديم الحرية المقيدة على أنها "تسهيل" يتم سحبه في حال "تردي الأوضاع الأمنية" كعقاب جماعي. هكذا تبقى منظومة الاحتلال مستدامة، تمسك بالزمام وتوجهه كيفما أرادت. وهكذا أيضاً، كما كانت تعتقد المنظومة الاستعمارية، سيشكل المستفيدون قوة ضغط داخلية على أية جهة قد تحاول تغيير الوضع القائم، أي خط دفاع أول لحماية رؤية الاحتلال ومخططاته.
وبعد أكثر من عقد من هذه الرؤية، بدا المشهد مختلفاً، مدينة تعاني من فوضى وإهمال وتردٍ في البنية التحتية، مع محافظة الاحتلال على مساحات انتعاش القطاعات المذكورة وتطويرها. ففي العام 2020، يحتفي "المنسق" بحملة "إزالة المنع الأمني" التي نفذها في مخيم جنين، وهي حملة درج على تنفيذها للسماح لمن كانوا ممنوعين لأسباب أمنية بالحصول على تصاريح عمل في الداخل. وهنا يتجلى مفهوم الازدهار والتنمية لدى هذه المنظومة الاستعمارية.
لم تختلف رؤية رايس، عن رؤى نتنياهو وترامب وبينيت لمفهوم التنمية في السياق الاستعماري. فهي تنمية الكفاف وتخليق النخب الموالية، وهذا هو منهج الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة تحديداً، والذي عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان، ومنسق أعمال حكومته في "المناطق" سابقاً شلومو غازيت بسياسة "العصا والجزرة".
وهنا اختلف تعريف رايس وإسرائيل على حد سواء لتدمير مخيم جنين عام 2002، فبينما وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية بالأيام المظلمة والمأساة، ورأته تل أبيب عقوبة قاسية رادعة. يستذكره الفلسطينيون كمركز تخليد للذاكرة الوطنية المقاومة، ومساحة اعتزاز وطني مستدام. يظهر اليوم جيل جديد ولد بعد معركة مخيم جنين عام 2002، أو كان في طفولته المبكرة آنذاك، يستمد تربيته الوطنية من حكاية المخيم، ويقرر أن يستعيد الاشتباك بعيداً عن ملاحقة "جزرة" الاحتلال.
ثمة خلخلة يجب أن تظهر، ولا يبدو هذا في الأفق، في فهم إسرائيل لنفسها ورؤاها. لكن الثابت أن مقاربتها لإدارة الاحتلال تتآكل بشكل تراكمي، وأن نموذج التنمية والازدهار كما يراه العقل الاستعماري، لا ينفع في جنين، كما لم ينفع سابقاً في العراق وأفغانستان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.