يمكن وضع عملية تل أبيب الأخيرة في سياق العمليات الثلاث التي سبقتها في "بئر السبع" و"الخضيرة" وضاحية "بني براك"، في سياق الانتفاضة ضد الظلم والتمييز والاحتلال الإسرائيلي نفسه بشكل عام. إلا أن عملية ديزنكوف تبدو متميزة، وللدقة أكثر استراتيجية مما سبقتها، إن فيما يتعلق بالمكان الذي نفذت فيه أو التخبط والعشوائية والفوضى، بل وحتى الهيستيريا الإسرائيلية في التعاطي معها، وقبل ذلك وبعده نجاح الشهيد رعد حازم في مغادرة المكان والتواري لعشر ساعات تقريباً رغم انتشار آلاف من عناصر الشرطة إضافة إلى وحدات النخبة من القوات الخاصة في جيش الاحتلال.
إذن، نفذ الشهيد رعد حازم العملية في ديزنكوف، الشارع التجاري والحيوي الأكثر شهرة في مدينة تل أبيب العاصمة الفعلية للدولة العبرية في الأبعاد السكانية والاقتصادية والاجتماعية، ولا أدل على ذلك من امتلاك رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو- ومسؤولين كثر- مكتباً في نفس الشارع الذي تواجد فيه فعلاً ساعة العملية، حيث احتجزته الأجهزة الأمنية لأربع ساعات قبل أن تسمح له بالمغادرة..
نجح الشهيد في الوصول إلى قلب تل أبيب مسلحاً ومتجاوزاً كافة الإجراءات والاحتياطات الأمنية رغم نشر عشرات الكتائب من الشرطة والجيش، واستنفار آلاف المواطنين المسلحين ما مثّل فشلاً إسرائيلياً ذريعاً لا يمكن إخفاءه أو مداراته.
رعد نجح كذلك في قتل ثلاثة إسرائيليين وإصابة 15 آخرين ومغادرة المكان دون التصدي له أو مواجهته بشكل جدي رغم الاستنفار الأمني من قبل الشرطة والجيش، وتشجيع المواطنين الإسرائيليين على حمل السلاح بشكل منفلت وهستيري، مع رسالة صريحة لهم بالتصدي الدموي والعنيف لمنفذي العمليات.
هنا لا بد من الإشارة إلى واقعة لافتة حدثت قبل أيام في مدينة عسقلان- المحتلة منذ عام 1948- حيث حاول رجل خطف سلاح إحدى المجندات وتصادف مرور ضابط في جيش الاحتلال- مسؤول ما تسمى وحدة "بنيامين" العاملة في مدينة نابلس بالضفة الغربية- بالمكان فقتله على الفور في تنفيذ حرفي لتعليمات حكومته وقيادة جيشه، وتلقى إشادة علنية على ذلك من مسؤوليه قبل أن يتضح أن المهاجم إسرائيلي "لا فلسطيني" مريض نفسياً وهارب من مستشفى للأمراض العقلية.
الفشل تبدى كذلك في التعاطي الإسرائيلي ما بعد العملية- كشف المستور، كما قالت صحيفة هآرتس أمس الإثنين- مع الانتشار العشوائي لآلاف من أفراد الشرطة وجهاز الأمن العام الشاباك ومتطوعين مسلحين وقوات نخبوية من وحدة خاصة بجيش الاحتلال- دورية رئاسة الأركان سيرت متكال- دون أن يتمكنوا من اعتقال الشهيد أو منعه من المغادرة، بل بدا مشهد تصويب المسدسات إلى أعلى إحدى البنايات التي لم يتواجد فيها رعد حازم أصلاً، معبّراً أو كاشفاً للواقع الإسرائيلي على حقيقته.
وحتى بعد ذلك لم يتم اعتقال الشهيد الذي قاتل إلى النهاية وحتى آخر رصاصة ليستشهد وقوفاً كالأشجار بعدما تم اكتشاف مكانه بالصدفة البحتة ودون عمل استخباري منظم، رغم استنفار الجيش والأجهزة الأمنية والإمكانيات التكنولوجية الهائلة التي تتبجح بامتلاكها الدولة العبرية وتسعى لترويجها للمطبعين العرب ودول أخرى حول العالم.
الإخفاق كان إعلامياً أيضاً حيث سادت الفوضى المكان واختلط الحابل بالنابل وركض الصحفيون مع القوى والأجهزة الأمنية بشكل عشوائى ومنفلت في تعبير صارخ عن عسكرة المجتمع الإسرائيلي بالمعنى الحقيقي للمصطلح.
إعلامياً أيضاً، تبدى الفشل في العجز عن ترويج الرواية الإسرائيلية من خلال رفض وسائل إعلامية شهيرة وصف العملية بالإرهابية، بل بدا وكأن هناك تفهم دولي ولو بشكل عام للأسباب والخلفيات التي دفعت الشهيد لتنفيذ العملية في قلب تل أبيب، مع اقتناع ضمني بمقولة: لا أمن للإسرائيليين طالما ليس هناك أمن للفلسطينيين في جنين وباقي وطنهم المحتل بشكل عام. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جيش الاحتلال قتل 40 فلسطينياً أطفالاً وشيوخا ونساء منذ بداية العام الجاري من مدينة جنين مسقط رأس الشهيدين رعد حازم وضياء حمارشة، والتي تتعرض للعقاب والحصار والتنكيل والبطش من قبل جيش الاحتلال وأجهزته وأذرعه المختلفة.
في هذا السياق، تبدو العمليات الأخيرة بما فيها عملية تل أبيب طبعاً ردّاً على التمييز والظلم والشعور بأنه لا يوجد مستقبل أمام الفلسطينيين، كما كتب عن حق مسؤول جهاز الأمن العام السابق الجنرال يوفال ديسكين معتبراً العملية ردّاً على ما وصفه بالأجواء السياسية بما في ذلك الاحتلال بحد ذاته وممارساته ضد الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة سواء بالأراضي المحتلة عام 1967 أو تلك التي احتلت في العام 1948.
ديسكين حمّل المسؤولية السياسية المباشرة عن تلك الأجواء لرئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو- الحكومة الحالية تعيش في جلبابه- الذي أمضى أطول فترة في منصب رئيس الوزراء- متجاوزاً حتى المؤسس دافيد بن غوريون نفسه- لسعيه الدائم لتجاهل القضية الفلسطينية وإزاحتها عن جدول الأعمال، والفصل بين الضفة الغربية وغزة، والتطبيع مع الدول العربية بعيداً عن الفلسطينيين وقضيتهم بحجة التركيز على إيران وملفها النووي وخطرها على الأمن والاستقرار في المنطقة.
حضر الفشل أيضاً بالهيستيريا الإسرائيلية في الرد على العملية الأخيرة واتباع نفس الذهنية الدموية المتغطرسة والفاشلة، حيث تحدث رئيس الوزراء نفتالي بينيت عن تحوّل جيشه إلى الهجوم في الضفة الغربية، علماً أنه كذلك طوال الوقت، بينما قال وزير دفاعه الجنرال بيني غانتس إنه لا قيود على جيش الاحتلال بتحركاته وممارساته في اجترار موصوف للقاعدة الإسرائيلية الدموية والفاشلة، أيضاً القائلة بأن ما لم يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد منها.
في كل الأحوال نحن أمام نجاح عظيم ومدوٍ للشهيد رعد حازم تخطيطاً وتنفيذاً ما أظهر فشلاً استراتيجياً للدولة العبرية على كافة المستويات. وأكد في السياق أنّ بالإمكان بل هي محكومة أصلاً بالهزيمة والاندحار.
مع عجزها طوال عقود ورغم امتلاك ترسانة حربية هائلة تقليدية وغير تقليدية عن هزيمة الفلسطينيين نفسياً أو فرض الاستسلام عليهم في الميدان، غير أن تحقيق الانتصار وكما أظهرت عملية رعد والعمليات الفردية التي سبقتها، فيحتاج بالضرورة إلى عمل أو للدقة مقاومة جماعية ومنهجية منظمة تراكمية وطويلة المدى بإشراف قيادة وطنية موحدة جادة ومسؤولة تدير الصراع مع الاحتلال بثبات وتصميم، وتستفيد من إرادة الفلسطينيين وروحهم الجهادية العالية وإمكانياتهم الهائلة في الداخل والشتات لقيادتهم نحو الانتصار الحتمي بإذن الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.