لن أدَّعي هنا أن العراق كان من الدول المتقدمة، ولن أكذب وأقول إن أحداً كان يعيش في أفضل أحواله، نعم كنا بحاجة إلى أمور كثيرة تنقصنا، وكنا أقل سعادة من أقراننا في الدول الأخرى، لكننا كنا دولة.
نعم كنا كذلك، ولم يكن بمقدور أحد أن يُفجر أجسادنا وأن يسرق فرحة أطفالنا، نعم كنا نحارب كثيراً، نحارب على الجبهات وفي المصانع والمزارع من أجل لقمة العيش، كنا ندرس بجد لكي ننجح، ولا مكان بيننا للمخربين، كنا دولة يدين أهلها بالولاء للعراق فقط؛ لأننا كنا دولة.
كنا لا نخاف على حقوقنا المسلوبة؛ لأن لدينا قضاء لا يُظلم عنده أحد، كنا نعي أن وطننا أغلى ما نملك، ولأننا وُلدنا فيه فالدفاع عنه واجب مقدس بالنسبة لنا، كنا نُجلّ العَلم ونرفع رؤوسنا عالياً ونحن ننظر إليه وهو يرفرف شامخاً، لأننا كنا دولة.
كان انتماؤنا للعراق وحده كافياً أن يجعلنا محط ترحيب وإعجاب بنا عندما نزور دولة أخرى، فيكفي أن تقول "أنا عراقي" وتتفرج على محبة الناس لنا واحترامهم الكبير لنا، صحيح لم يكن لدينا إنترنت ولم يكن لدينا أجهزة الاستقبال الرقمية (الستلايت) لكن أخبارنا وبطولاتنا كانت تصل إلى كل بقاع الأرض، لأننا كنا دولة.
ليس هذا مدحاً بمن كان يحكمنا، ولكنه مدح بنا كشعب أصيل عندما يتم ذكره ترتبط مع اسمه مفردة الغيرة العراقية والتي ميزتنا عن غيرنا من شعوب الأرض، عندما يأتي ذكرنا يتذكرون فنوننا وتاريخنا وأصالة أنسابنا وأسماء طرزت حروفها من نور في تاريخنا.
إلى أن جاء هذا اليوم قبل عشرين عاماً فانقلب كل شيء، فأصبح من السهل على أي شخص أن يفجر كل شيء ليس فقط أجسادنا، تفرقنا وصرنا مشتتين بين الدول وداخل وطننا، أصبحنا نتقدم بطلب الفيزا لدخول محافظات أخرى، وأصبحنا نخاف من تشابه أسمائنا ونخاف أن نصلي خارج مناطقنا، أصبحنا تائهين ومهددين ونحن في عقر دارنا، دخل الإنترنت وامتلأت منازلنا بالقنوات وأصبحنا نكتب عن مآسينا، أصبح الدين ألعوبة بيد أسفل السافلين الذين فرقونا وسرقونا وذبحونا وأبناؤهم ينعمون بخيرات بلدنا في بارات وملاهي أوروبا.
أصبحنا بلداً من ورق، يغزوه السلاح والخلافات العشائرية والمخدرات ومافيات الجريمة وحكم العوائل، أصبحت صواريخ الجيران تنهال علينا من كل مكان وأرواحنا أصبحت أرخص شيء في هذا الوجود، كل هذا حصل في عشرين عاماً فقط.
قبل عشرين عاماً توقفت عقارب الساعة لتعلن نهاية بلد كان اسمه العراق، كان يحسب له ألف حساب احتراماً تارةً وخوفاً ورعباً تارةً أخرى، قررت أمريكا ومن معها تدمير بلد عمره 7 آلاف سنة من التاريخ والماضي المشرق لتحوله إلى جحيم لا يطاق ليصبح الأخير في كل شيء.
لكن مهلاً.. فالعراق لم يمُت بعد وما زالت حناجر شبابه تصدح بالحق وأعلامه ما زالت ترفرف، صحيح أن الكثير ماتوا لكن جيلاً وُلد من جديد ولديه من الإصرار ما يكفي لإعادة الروح للجسد المريض، جيل انبثق من صميم اليأس، كما قال الجواهري جبار عنيد شديد البأس، إنه جيل انتفاضة تشرين العظيمة التي أرعبت إيران وأمريكا وكل من يريد سوءاً بالعراق من أحزاب الصدفة والمتآمرين، وسينهض الأسد من غفوته ويعيد العراق إلى قمة المجد بسواعد أبنائه وجيله القادم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.