تعود فكرة النخبة الخفية التي تحكم العالم من خلف ستار للظهور بين الحين والآخر مع كل حدث جلل يضرب العالم، تفسير الظواهر السياسية والعسكرية قد يكون من الصعوبة بمكان يسمح لنظريات المؤامرة بالنمو، وتلك النظريات والأفكار تجد كثيراً من الرواج والتصديق داخل الوطن العربي وخارجه.
مثلها، فكرة أن هناك نخباً سياسية وإعلامية واقتصادية هي التي تقوم بصنع القرارات في العالم وتوجيه الحكومات العالمية بعيداً عن السياسيين والحكومات المنتخبة في البلدان المختلفة. ولقد خطر لي مناقشة هذه الأفكار في هذه المساحة بعد حضوري لمنتدى "الدوحة" الذي انعقد في شهر مارس/آذار الماضي على مدى يومين في النسخة العشرين للمنتدى التي هي النسخة الأكبر منذ إنشائه.
من حيث الشكل، يمثل المنتدى تجمع لعدد كبير من السياسيين والإعلاميين والأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني. بعض هؤلاء المشاركين حظي بقدر أعلى من المتابعة الإعلامية والرصد بحكم مناصبهم أو الملفات التي لهم علاقة بها، لكن كان هناك عدد آخر من المشاركين لم يحظوا بنفس القدر من الاهتمام الإعلامي، لكن يمكن أن يقال عنهم إنهم جزء من هذه النخبة العالمية التي يعتقد البعض أنها تحكم العالم.
أما من حيث المضمون، فإن المنتدى يمثل آلية يمكن من خلالها لمتخذي القرار وصانعي السياسات التواصل والنقاش مع الإعلاميين والأكاديميين والمتخصصين من خلال الجلسات المفتوحة أو الورش المتخصصة أو من خلال اللقاءات الجانبية لمناقشة القضايا الملحة حالياً وسبل مواجهتها.
لكن كما هو متوقع، فإن الحرب الروسية- الأوكرانية حظيت بمساحات واسعة في الجلسات المختلفة، وطغت أثناء مناقشة مواضيع أخرى بسبب تأثيرات الحرب المحتملة سياسياً واقتصادياً.
تنظيم مؤتمر يجتمع فيه السياسيون مع الإعلاميين والأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني تقليد يوجد في دول كثيرة. على سبيل المثال، هناك مؤتمر "ميونيخ للأمن" الذي عقدت دورته الـ58 في شهر فبراير/شباط الماضي، وفي شهر مارس/آذار الماضي أيضاً عقدت النسخة الثانية من منتدى "أنطاليا الدبلوماسي".
منتدى "دافوس" يعتبر هو أكثر المنتديات شهرة في هذه الفئة من المؤتمرات كما أنه الأكثر تعرضاً للنقد، ويبدو عند الكثيرين هو النموذج المثالي للحكومة الخفية التي تدير العالم.
على مستوى الحكومات فتبرز قمة مجموعة "الدول العشرين" كواحد من المؤتمرات التي تحظى بمتابعة إعلامية واسعة.
هل هذه المؤتمرات تمثل فعلاً الساحة الخفية التي يحكم من خلالها العالم؟
إحدى الملاحظات التي يمكن الانتباه إليها هي أن حضور المؤتمرات مقتصر إلى حد كبير على نخب ذات صبغة خاصة. لدى هذه النخب مجموعة من الخصائص التي تجمعها، فهي نخب معولمة تهتم بتعزيز التجارة الدولية ونشر قيم الديمقراطية والليبرالية وبناء المؤسسات الدولية، كما أنها مهتمة بإيجاد حلول للمشاكل والصراعات الدولية.
المواضيع الرئيسية في أغلب هذه المنتديات لها علاقة بالسياسة والاقتصاد بدرجة كبيرة. في حين لا تحظى مواضيع لها علاقة بالثقافات واللغات والأديان والهويات القومية والوطنية المختلفة باهتمام هذه المؤتمرات أو المنتديات، كما تحظى مواضيع لها علاقة بالاقتصادات المحلية للدول بفرص أقل في النقاش.
ويجادل البعض بأن سبب غياب مثل هذه المواضيع أنها ليست جزءاً من اهتمام هذه النخبة "فوق الوطنية" ففي حين تكون المواضيع السابق ذكرها، بالإضافة إلى مواضيع الضمان الاجتماعي والاقتصادي المحلي هي المحور الأساسي للمواطنين في أغلب الدول، فإن اهتمامات هذه النخب الكوسموبوليتانية (منوّعة) مختلفة عن اهتمامات السكان الوطنيين والمحليين في دول مختلفة.
الملاحظ خلال فعاليات منتدى "الدوحة" الاهتمام الواضح بالحالة الأفغانية. على سبيل المثال، ذهبت جائزة منتدى الدوحة إلى رؤية محبوب الرئيس التنفيذي لصندوق المواطن الرقمي، وهي مبادرة تهدف لمحو الأمية التكنولوجية لـ1200 من الفتيات الأفغانيات. كما كان هناك أكثر من جلسة مخصصة للأوضاع في أفغانستان شارك فيها مسؤولون سابقون في الحكومة الأفغانية أو أعضاء في منظمات المجتمع المدني الأفغانية. يمكن فهم اهتمام المنتدى بالقضية الأفغانية من خلال مراجعة الدور الذي قامت به قطر في المفاوضات بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية أو دورها في نقل واستقبال آلاف المغادرين الأفغان على أراضيها.
المؤتمر شهد أيضاً تناول لظاهرة الإسلاموفوبيا ولأوضاع المسلمين في الغرب، وبرز هذا في كلمة عمر سليمان مؤسس ورئيس مؤسسة يقين للبحوث الإسلامية. على الأغلب، فإن مثل هذه القضايا لن تحظى بنفس القدر من الاهتمام في الفعاليات المماثلة. لكن مع هذا تظل السمة الأساسية لمثل هذه المؤتمرات أنها مؤتمرات نخبوية بالأساس، حتى لو تناولت مواضيع قد تمس الحياة اليومية لعدد كبير من المواطنين. وجود مؤتمرات نخبوية ليست مشكلة بالأساس. لكنها أصبحت مشكلة حالياً ورتم ربطها بفكرة الحكومات الخفية بسبب وجود ظاهرة أوسع تحدث في دول مختلفة من العالم ومرتبطة بتفاعل المواطن العادي مع القضايا الرئيسية والأساسية.
يمكننا القول إن هناك ثلاث ظواهر تتصاعد في العالم حالياً سواء في مجموعة الدول الديمقراطية أو في مجموعة الدول غير الديمقراطية، ولكن بأسباب مختلفة في كل مجموعة. الظواهر هي فقدان الثقة في السياسيين التقليديين، عدم الرغبة في المشاركة في الأنشطة السياسية التقليدية، والبحث عن آليات وطرق للتأثير في السياسات العامة خارج الطرق والآليات التقليدية.
يمكن فهم بروز هذه الظواهر في الدول غير الديمقراطية بسبب غياب الحريات والديمقراطية وانفراد المستبدين بالسلطة. لكن كيف يمكن تبرير هذه الظواهر في معاقل الدول الديمقراطية؟ هنا نعود مرة أخرى للاختلافات الكبيرة بين النخب الحاكمة وبين المواطنين العاديين. النخب التي تشمل السياسيين والإعلاميين والأكاديميين والعاملين في المنظمات الدولية، والعاملين في منظمات المجتمع المدني بالإضافة إلى رجال الأعمال والمستثمرين، لدى هؤلاء في أغلبهم رؤية مختلفة للسياسة ولطريقة إدارة الدول عن باقي المواطنين. بالإضافة إلى ذلك، لديهم مؤتمراتهم وآلياتهم التي تتيح لهم التواصل بشكل فعال ودائم لتبادل الأفكار والآراء فيما بينهم. يمكن القول إنه قبل الوصول إلى قرار نهائي في موضوع رئيسي، فإن شبكة العلاقات هذه مع الآليات الفاعلة تتيح فرصة للتشاور وتبادل الآراء بشكل جيد بحيث يصدر القرار النهائي ممثلاً لتوجهات هذه النخبة. لكن هذا لا يحدث بنفس القدر مع المواطنين العاديين فلا يوجد نفس القدر من الآليات ولا المؤسسات التي تعمل على زيادة مساحة الحوار والنقاش بين المواطنين أنفسهم حول القضايا التي تهمهم. كما لا يوجد القدر الكافي من الآليات والمؤسسات التي تعمل على إقامة قنوات دائمة من الحوار والنقاشات بين هذه النخب والمواطنين. وحتى في وجود انتخابات ديمقراطية فإنها لا تصبح لوحدها كافية للتعبير عن آراء وتطلعات هؤلاء المواطنين. بمعنى آخر، فإن العالم في حاجة اليوم إلى مساحات وآليات أوسع للحوار والنقاش ليس فقط بين النخب وبعضها البعض، بل بين النخب وعموم المواطنين.
الفكرة الرئيسية هنا هي أننا في حاجة إلى تجمعات/مؤتمرات/فعاليات/آليات… إلخ تعمل على زيادة مشاركة عوام الناس في نقاش السياسات العامة لدولهم وفي إبداء آرائهم فيها. في عدد من الدول وعلى رأسها الدول الديمقراطية، تظهر ملامح انقسامات ثقافية واضحة بين نخب تدير البلاد تحمل ملامح عالمية وقيماً ومبادئ معولمة تدافع عنها، في مقابل نخب تتبنى خطابات محلية وطنية تركز على القضايا المحلية والقضايا المعيشية. صعود الخطابات الشعبوية في الغرب هو أحد ملامح هذه الظاهرة ونموذج مثل دونالد ترامب أو "البريكست" هي أمثلة عملية للتأثيرات المحتملة لمثل هذه الظواهر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.