ظننت دوماً أن الغُربة واحدة، طالما تخطّيت حدود وطنك وذكرياتك، لكن مع الوقت ظهر أنّ مواطن الذكريات قد نعتادها حتى تُصبِح نسيجاً مُريحاً لا هو الوَطن ولا هو الغُربة.
إسطنبول التي أتيتها قبل خمس سنوات، وكانت صدمة أول رمضان غائرة في قلبي، أذكُر كل محاولاتي لتلافي الشعور بالوحدة، وأن كأس الماء لن يصُبّه لك أحد غيرك ولن تناديني أمي كي أساعدها في تقديم الإفطار.
أوّل رمضان في الغُربة حاولت لملمته داخلي فاستعنت (بِ بطّة) قُمت بطهيها في سكن الطالبات.
هذه البطّة يذكُرها صديقاتي من كل الجنسيات اللاتي حضرن مراسم طهي البطّة مُنذ وضعها على النار ووضع قلبي على صفيحٍ ساخن بالجهة الأُخرى، لم أكُن أستطيع الطهي حينها ولم أكُن أعلم متى سأعرف أنّ (البطة) استوت فجلست على باب مطبخ السكن أُراقبها بين الحين والحين وامتدت لساعات ثم تدلّت علينا البطة بوركيها مرفوعين لأعلى كما لو أنّها تخشّبت، شيءٌ أشبه بالصينية المشهورة في أفلام كفّار قريش والبطّة مُمدّدة على ظهرها ووِركيها لأعلى.
المهم رُغم سيل النِكات والأسئلة المُستمرة عن سبب تمسُّكي بهذه البطة بهذا القدر فإنّني حاولت بيني وبين نفسي أن أختزل دفء بيتنا في رمضان في هذه البطة، أنا أعلم أن الأمر قد يبدو مُضحكاً لكن في الغُربة تتعلّق بأقل الأشياء التي تجعلك تُلامِس ذاكرتك وتستحضر دفء العائلة واللمّة، وكانت هذه البطّة حلقة توصِلني بطبلية أُمّي المُمتدة المُمتلئة بنعيم الله من بط ومحاشي في بيت أبي العامر دوماً ولا يجوع فيه بطن.
أذكُر أنّ صديقتنا من دولة ما لا دينية جرّبت معنا الصيام وصديقة أُخرى لم تكُن قد صامت من قبل قررت الصوم معنا واجتمعن البنات حول مائدة صنعناها بكل ما نملُك، وكل ما تملُك إحداهُنّ من ذاكرة بيت أبيها ووطنها البعيد الحاضر فيها.
هكذا مرّ أول يوم في رمضان في أول رمضان في الغُربة، رُغم أنّ إسطنبول تحديداً تُعرَف بقلّة صيام سُكّانها، وأنّ الصوم في تركيا بشكلٍ عام لا يُمثّل أبداً الصوم في مصر ولا توجد ملامح لرمضان كما في مصر.
أحد الأساتذة في فصول تعليم اللغة لم يكُن قد جرّب صيام رمضان، ولأنّ فصلنا كان أغلبه يصوم قرر الصيام ولم يستطِع إكمال اليوم واستعجب من قُدرتنا على إكمال اليوم والدهشة في إكمال الشهر.
للوهلة الأولى قد تظُن أنّ هذه صورة من صور غُربة الدين، لكن إذا تفحّصت الأمر قليلاً فالجوامع كلّها حولك تقول (الله أكبر) في كُل أذان ورمضان يأتي، صامه الكل أو صامه البعض هو يأتي. والنقطة المحورية هُنا أنّك في بلدٍ كتركيا تصوم لله وفقط، إن أفطرت لن ينظُر إليك أحد باشمئزاز. أنت حُر في الطاعة وحُر في المعصية وهُنا هو الاختبار والجهاد، أن يكون صومك دون رياء لأحد وليس إجباراً من أحد، رمضان الأول في الغُربة علّمني أن أصوم لله في شهر الله، لا أصوم في شهر شعبٍ بعينه ولا لتحاشي عين أحد.
في بعض الأيام كنت وبعض الأصدقاء نذهب أماكن الوَقف الخاصة بالطلّاب وهذه الأماكن هي عبارة عن مؤسسات وجمعيات تُقيم موائد شبه فُندقية للطلّاب المُغتربين حتى الأتراك الذين جاؤوا من محافظات أخرى غير إسطنبول.
كانت هذه الجمعيات ملاذاً آخر من وَحش الوحدة في الغُربة، وكانت أيضاً من الأشياء التي تجعلك تقف تتأمّل في وجوه الصائمين من أعراق وجنسيات أُخرى لم تجمعك بهم سوى طاولة ممدودة تجمع الطلّاب الصائمين من كل حدبٍ وصوب.
الأمر في الجوامع لا يختلف كثيراً، لكن بالنسبة لي كانت الطرفة في سُرعة أداء صلاة التراويح، لا أستطيع حتى تشبيه السُرعة بالكارديو؛ لأنّه حتى الكارديو يحتاج لتركيز وتوازن في الصعود والهبوط فلم أجِد مُتعة في تراويح إسطنبول المنزوعة من الخشوع والتركيز على الأقل بالنسبة لي وبمقارنة بسيطة ففي القرية لو مَنّ الله علينا بقارئ طيّب الصوت كانت لك فُرصة ذهبية أن تختلي مع الله، وأنت بين الحشود في لحظة سجود أو مع آية، لكن التراويح في إسطنبول روحانيتها الوحيدة أنّك سترى أنّه لا فرق بين عربيّ وأعجمي إلّا بالتقوى حقاً، فقد تجد عن يمينك صومالياً وعن شمالك كازخستانياً وأمامك تركياً وخلفك هندياً، وجوه غير وجهك الذي اعتدته وأقوام غير أقوامك في أُمّة واحدة تقول (الله أكبر).
مرّت الأيام وسرق الوباء منّا رمضانين لم يكُن هُناك منفذ لأي ملمح من ملامح رمضان، لا جماعة ولا عزيمة ولا موائد، لكن أنا وزوجي حاولنا كثيراً رسم رمضان خاصّتنا، لكن الغُربة تعصِف بنا ويظل رمضان به وَنَس غير مُكتمِل وعطش غير مروي.
في بداية هذا العام كانت خُطّتنا لترك تركيا قد وصلت للتنفيذ، كان الأمر فُجائياً رغم التخطيط له.
قبل الوصول لميونيخ – ألمانيا كان يجوب في خاطري دوماً القلق من أن أبدأ غُربة جديدة وفي أوّلها رمضان وهذا يُعني على قلبي غُربتين وشدّتين، الأولى هي الغُربة نفسها، والثانية رمضان في مكان لن تكون دهشتك فيه أنّ من حولك لا يصومون مثلك، لكن الصدمة في أنّ مجرّد الوصول لبطّة تستعيض وليمة أُمّي يُعد أمراً صعباً للغاية، فإن البحث عن لحمٍ حلال يتطلّب مجهوداً والذهاب لأماكن بعينها وتحرّي طريق الذبح وأمور تشِد عليك معنى الغُربة أو لنقُل إنّها تُذكّرك كل مرّة أنّ هنا ليس أرضك ولا دينك ولا هويّتك.
أحسبني من المُقصّرين، وأعوذ بالله أن أموت على تقصيري، لكن صوت الأذان بالنسبة إليَّ مؤنس لا غنى عنه، حتى في إسطنبول أخذت وقتاً حتى اعتدت الأذان بصوتٍ أعجمي ونبرة غير التي في إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة.
لكن صدمتي هُنا كانت أنّه (لا أذان)، فقط صوت أجراس ثلاث كنائس تحِد بنا.
الأمر يتعدّى احترام الأديان والثقافات، كل دين له حُرمته وكل معتقد له حدوده، لكنّي أبحث دوماً عن هويّتي، أُفتّش عن دلالات تُخفّف من معالم الغُربة القُح وتؤنسني.
أقول لك أنا لم أكن أبداً أحُب صوت مؤذّن الجامع الأقرب لبيتنا في القرية، لم يكُن الأمر فيه أي احترام لقُدسية الأذان، صوت عشوائي ربما صوت طفل أو عجوز أو غيره، المُهم أنّه صوت غير مُتخصّص يقول الله أكبر لمجرّد إعلان الصلاة ورغم نبرة صوته الجافّة فإنّني أحملها في ذاكرتي السمعية وأحياناً حين تعصِف بي الغُربة والمادة أُغلِق عيني في محاولة منّي لاستعادة هذا الأذان تحديداً؛ كي أشعُر أنّي بمُستقرٍ في بيت أبي وغُرفتي ذات الشُرفة المُطلّة على حقول القمح والذرة.
أنا هُنا أحاول التعايش مع أذان رقمي عبر هواتفنا وتطبيقاته حتى إنّه في التطبيق أعطاني خياراً ما بين صوت المؤذّن في الحرم أو المدينة؛ لكنّي ظللت أبحث عن صوت يُشبه أذان القاهرة والإذاعة وفشلت، ويتعيّن عليَّ حتى أرتوي وأُشبع عاطفتي أن أصِل لراديو الإذاعة في القاهرة؛ لتأتي لحظة مسروقة عبر التكنولوجيا تمس في جزء من هويّتي يُعلِن الصلاة بـ(الله أكبر) بصوتٍ يُشبهني، بصوتٍ يجعلني أشعُر أنّ القاهرة قريبة وبيتنا ليس ببعيد.
قبل بدء رمضان هذا، راودني سؤال (كيف ستتشكّل ذاكرة ابنتي في رمضان، وهل سأستطيع أن أمنحها رابطاً يجعلها تحمل في داخلها هويّة؟).
سؤال فلسفي مسؤول لكن إجابته مُعقّدة وتجلب لي حلقة من التفكير المُفرَغ والخوف غير المُبرَّر أحياناً من حرمانها مشاعر من حقّها أن تعيشها.
تصفّحت أمازون ووجدت فوانيس تقترب من فوانيس القاهرة، ففاضلت بين الأقرب واشتريت لابنتي -التي لم تُكمل عاماً ونصفاً بعد- فانوس معدني أسود له شبابيك ملوّنه، تُفتح إحداها لوضع الشمع.
وصَل أول رمضان وكانت فرحة به وأنا أكثر، رُغم أنّه بقي على الرف، لكن حين تقع عيني عليه أبتسم لطفولتي.
طبعاً في عدم القدرة للوصول لقنوات مصرية حتى الآن كان اليوتيوب بوابة لمُشاركة حياة أغاني رمضان ومراسم استقباله الرسمية في البيوت المصرية الأصيلة، وقررت أن أجعلها تُشاهد مقتطفات مُجمّعة من (فنانيس)، كان لحن فنانيس ورسوماته مُذهلاً لابنتي حياة، وحدّقت في الشاشة مُبتسمة ومن داخلي بدأت أهدأ نحو فكرة أنّ الوصول للهويّة له طُرُقه مع وعدٍ في داخلي لنفسي أنّ رمضان المُقبل، إن شاء الله، لن أفوّت على حياة فُرصة مشاعر العائلة، بل العائلتين في رمضان مصر بكل ملامحه وكل شوارعها.
لا أنكِر أن رمضان هذا ثقيل، ومُتحامل على قلبي؛ لكنّي أحاول في لحظات الليل حين أختلي بنفسي أن أُكررها عليَّ (الله في كُل أرض، والسماء التي فوقي هي نفسها التي فوق بيتنا في مصر وأنّ خيارات الإنسان مدفوعة ولا توجد مجّانية لكن ظنّي بالله أن تشملنا الرحمة).
قد يبدو كلامي مُبالغاً فيه لشخصٍ لم يعِش بعيداً عن موطنه، لكن صدّقني هذا الوطن الذي لم تختَره هو أنت الذي ستسعى دوماً في غُربتك أن تلقاه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.