لم يجتمعوا على مرشح واحد.. لماذا انقسمت أصوات المسلمين والعرب في الانتخابات الفرنسية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/04/12 الساعة 09:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/17 الساعة 09:20 بتوقيت غرينتش

52% من أصوات المقترعين هي مجموع ما حققته الأحزاب الشعبوية على طرفي الخريطة السياسية الفرنسية، في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية. 

فبين مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، التي حازت أكثر من 23% من الأصوات، وعلى يمينها إيريك زمور مرشح حزب "استرداد" (تيمناً بالاسم الذي أطلق تاريخياً على حروب "استرداد" الأندلس من يد المسلمين)، رأس حربة خطاب الانغلاق الهوياتي وصراع الحضارات، الذي حاز على حوالي 7%، وصولاً إلى جان لوك ميلانشون مرشح أقصى اليسار الشعبوي، والداعم تاريخياً لبوتين وللأنظمة الديكتاتورية في العالم كنظام بشار الأسد في سوريا، الذي نال ما يناهز الـ22%.

يبدو جلياً أنّ الشعبويات المتطرفة تنخر الجسد السياسي الفرنسي، وإن دل ذلك على شيء، فعلى حالة الغضب والاحتقان الكبيرين التي يعيشها الشعب الفرنسي من جراء خمس سنوات من عهد الرئيس إيمانويل ماكرون وسياساته الليبرالية التي زادت الأعباء الاقتصادية على الطبقات الوسطى والشعبية، في حين تم إلغاء قسم كبير مما يعرف بـ"الضريبة على الأغنياء".

ومن المهم ذكر انّه، للمفارقة، يعود الفضل، بدرجة كبيرة، في نيل ماكرون أيضاً النسبة الأعلى من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات، إلى استثماره وفريقه الوزاري خلال الخمس سنوات المنصرمة من عهده في خطاب اليمين المتطرف الشعبوي، لا سيما في خطاب معاداة المسلمين والقوانين التي تستهدفهم (كالقانون حول معاقبة "الانفصال"، والمقصود به بعض المظاهر والعادات والممارسات الإسلامية التي لا تتوافق، من وجهة نظر ماكرون وفريقه الوزاري والتشريعي، مع قيم الجمهورية الفرنسية)، وذلك في محاولة من ماكرون لاسترضاء جمهور اليمين المتطرف الحانق على سياساته الاقتصادية والاجتماعية النيو ليبرالية، ولاستقطاب بعض الأصوات منه.

وفي قراءة أكثر تفصيلاً لتقدم الشعبويات الكبير في فرنسا، فعلى أقصى يمين الخارطة السياسية الفرنسية، إنّ ترشح إيريك زمور كمنافس لمارين لوبان قد أعطى مفعولاً عكسياً، إذ شكل رافعة للوبين في الرأي العام الفرنسي من خلال إظهارها بمظهر المعتدلة بالمقارنة مع خطاب زمور الرجعي لدرجة التخلف، والخطي، والذي ينضح بالتزمت الإيديولوجي، والماضوية الهستيرية (بالمعنى الفرويدي للكلمة) المريضة، وكراهية المسلمين الصرفة. 

أما على أقصى يسار الخارطة السياسية، فقد استفاد جان لوك ميلانشون من التصويت "المفيد" لصالحه من قبل شرائح واسعة من الفرنسيين الغاضبين من سياسات ماكرون لا سيما في شقيها الاقتصادي ـ الاجتماعي والمتعلق بالمعاداة للمسلمين والتضييق عليهم، وقد كان التصويت المفيد لصالح ميلانشون في محاولة لقطع الطريق، منذ الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، أمام تأهل مارين لوبان للدورة الثانية. 

وقد حاز ميلانشون على تأييد واسع من قبل مسلمي فرنسا، ومرد ذلك إلى أنّ مرشح أقصى اليسار الفرنسي هو الوحيد الذي دافع عن مسلمي فرنسا وعن حقوقهم بوضوح وصراحة طوال فترة حملته الانتخابية، وذلك في اختلاف نافر وكبير مع أغلبية المرشحين الآخرين، لا سيما مرشحي الوسط (ماكرون)، واليمين، وأقصى اليمين، الذين تباروا بين بعضهم البعض في خطاب الإسلاموفوبيا وتهميش المسلمين. 

 المسلمين في الانتخابات الفرنسية

وهنا لا بد من كلمة حول انقسام مسلمي فرنسا العرب بين مغاربة ومشارقة حول دعم ميلانشون، لا سيما تميّز قسم كبير من المشارقة عن المغاربة في عدم تأييد ميلانشون.
فالمشارقة (نسبة إلى بلدان المشرق العربي، لا سيما سوريا) من مسلمي فرنسا، وهم أقلية بين العرب في فرنسا، رفضوا نظرية التصويت المفيد لصالح مرشح أقصى اليسار التي تبنتها شرائح واسعة من المغاربة (المتحدرين من بلدان المغرب العربي على اختلافها) الذين يشكلون الغالبية الكاسحة من المسلمين العرب في فرنسا.

ويعود رفض المشارقة فكرة التصويت لميلانشون لحلفه التاريخي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هذا الحلف الذي عاد وأنكره جزئياً ميلانشون مؤخراً إبان حرب روسيا ضد أوكرانيا، بالإضافة إلى تأييد ميلانشون الطويل لكثير من الأنظمة الدكتاتورية، كنظام بشار الأسد في سوريا، وذلك في قراءة سياسية لا تخلو من المانوية السطحية والمحدودة من قبل ميلانشون، الذي يدفعه عداؤه المحق للاستعمار والامبريالية الغربيين وحلف الناتو إلى تأييد كل من يعاديهم، ولو كان هذا الذي يعادي الغرب أسوأ من الغرب وممارساته بحق شعوب العالم الثالث بأشواط. 

فمشارقة فرنسا المسلمين لا يستطيعون، بأغلبيتهم، أن ينسوا مثلاً تهنئة ميلانشون لبوتين بعد أن مسح الأخير حلب عن الخارطة خلال تدخله العسكري الداعم للديكتاتور السوري. 

هذا لا يعني أنّ كل المشارقة المسلمين رفضوا الاقتراع لميلانشون، فمن المشارقة من تأثر بالمناخ السياسي العام المسيطر ضمن مسلمي فرنسا المغاربة في تأييد ميلانشون للأسباب المذكورة أعلاه، ومنهم من يؤيد أصلاً حلف "الممانعة" بين إيران والأسد وحزب اللّه وقد صوّت لميلانشون تماشياً مع قناعاته السياسية في هذا الصدد أو خصوصاً مع انتمائه المذهبي، ومنهم ممّا زال يجتر أدبيات اليسار العربي الديناصوري البائد، يسار خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لا سيما في حمل لواء معاداة الإمبريالية والاستعمار كتبرير لتأييده للأنظمة الأوتوقراطية في العالم العربي. 

أما لبنانيو فرنسا (وهم مسيحيون بأغلبيتهم الكبيرة)، حتى لو استهوى التصويت لمرشحي اليمين (لوبان وزمور) المتطرف قسماً معتبراً منهم كصدى للأفكار الفيدرالية وصراع الثقافات الآخذة في الصعود في لبنان،  فقد صوّتوا بأغلبيتهم لصالح ماكرون، لما يعتبرونه دوراً إيجابياً يلعبه الرئيس الفرنسي في محاولة منه لانتشال بلدهم من الأزمة الكارثية التي يمر بها لبنان.

وفي هذا الصدد، يبدو أنّ زيارة ماكرون الاستعراضية لبيروت بعيد انفجار المرفأ في 2020 ما زالت تفعل فعلها في نفوس عدد كبير من اللبنانيين، حتى ولو أثبتت سياسات ماكرون فشلها في لبنان في السنوات الماضية، لا سيما بسبب إعادة تعويمه للطبقة السياسية بعد انفجار المرفأ، وعدم تمكنه من فرض الحلول التي اقترحها على أركان هذه الطبقة السياسية اللبنانية الذين أبدعوا معه، كعادتهم، في التسويف، والمساومة، والتهرب من المسؤوليات. 

في المحصلة، تقدم كبير للشعبويات بمختلف أطيافها وتلاوينها السياسية هو ما شهدته فرنسا في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، فحتى نيل مرشح الوسط (ماكرون) النسبة الأعلى من الأصوات، يعود بدرجة كبيرة لاستثماره في خطاب اليمين المتطرف الشعبوي وممارساته التضييقية على المسلمين، للتغطية على فشل سياساته الاقتصادية وتهديمه لمكتسبات الفرنسيين الاجتماعية. 

وإذا لم يحدث أي مفاجاة أو حدث من العيار الثقيل في الأسبوعين المقبلين، فمن المرجح أن يعاد انتخاب ماكرون في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية لخمس سنوات إضافية. ولكنّ هذه المرة سوف يكون خطر كل هذا الغضب الفرنسي، الذي ظهر جلياً في التصويت الكثيف لصالح الأحزاب الشعبوية على اختلاف تلاوينها السياسية، كبيراً جداً، لا سيما خطر ترجمة هذا الغضب عبر انفجار الشارع الفرنسي خلال الخمس سنوات الآتية في احتجاجات اجتماعية مهولة يمكن أن تجعل من حركة السترات الصفر تبدو كحركة كثيرة الاعتدال بالمقارنة مع ما يمكن أن ينتظر فرنسا، لا سيما إذا استمر ماكرون في سياساته الاقتصادية والاجتماعية الهدامة. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد