في كل رمضان تشهد مصر مكلمة كبرى حول الإعلانات الرمضانية وجدواها؛ حيث تنقسم هذه الإعلانات شديدة الكلفة في المجمل حول شيئين شديدي التناقض إن لم يكونا على طرفي النقيض حرفياً، أولهما الإعلانات عن الفيلات والشقق الفارهة في المدن المسورة المطورة من قبل مطورين عقاريين كبار في السوق المصري وعادة ما تكون أسعارها تبدأ من أرقام ذات ستة أصفار فأعلى، بينما ثانيهما يتعلق بحث المصريين على الصدقات والزكاة سواء ما يتعلق منها بزكاة المال أو زكاة الفطر للمؤسسات الخيرية الكبرى ذات القدرة على عمل إعلانات دعائية بقيمة مالية شديدة الكلفة ولا تقل عن كلفة إعلانات شركات التطوير العقاري أو شركات الاتصالات العالمية العاملة في مصر.
مع الوقت صار هذا تقليداً رمضانياً متواتراً مرتبطاً بأجور فارهة لكبار المغنين والممثلين وشركات الدعاية، ويدافع عنه قطاع واسع من العاملين في المجال بلا منطق في كثير من الأحيان حتى إن البريد المصري صاحب المكاتب رديئة التجهيز وشديدة الازدحام وغير المحتاج لمثل هذه الدعاية باهظة الكلفة دخل على خط الدعاية الرمضانية عبر أغلى نجومها الفنان عمرو دياب ما أثار حفيظة المتعاملين مع البريد.
توزيع مختل للثروة في مصر
يشير تقرير الثروة العالمية الصادر عن مؤسسة "كريدي سويس" لعام ٢٠١٧، إلى أن الثروة في مصر تُقدر بـ ٢١٢ مليار دولار، أي أن هذا إجمالي ما يملكه ١٠١ مليون مصري بالتقريب، لكن الصاعقة أن من يملك النسبة الأكبر من الأموال، هم قلّة قليلة جداً؛ إذ يمتلك ٩٦٪ من المصريين أقل من ١٠ آلاف دولار، وهذه هي النسبة الأكبر من الشعب، التي تتراوح بين الفقر المُدقع والفقر والحال المتوسط، بينما يمتلك ١٤٠٠ شخص من ٥ إلى ١٠ ملايين دولار، وأكثر من ١٠٠٠ شخص بين ١٠ إلى ٥٠ مليون دولار، و ١٦١ شخصاً يمتلك بين ٥٠ إلى ٢٠٠ مليون دولار، و ١٣٥ شخصاً بين ١٠٠ إلى ٥٠٠ مليون دولار، و ١٨ شخصاً بين ٥٠٠ مليون إلى مليار دولار، بينما من تزيد ثروته فوق المليار دولار عدده ١٩ مصرياً فقط.
ويا للحظ العثر فإن من تنحاز لهم السياسات سواء بتأجيل ضرائب الثروة والضرائب العقارية، أو التسهيلات الشديدة في النفاذ إلى الأرض والموارد بأسعار بخسة تحت بند تشجيع الاستثمار، غالباً هم أنفسهم أصحاب شركات التطوير العقاري المالكة للمدن المسورة ذات الشقق التي تبدأ بمقدمات برقم يتجاوز المليون، ويخرج أصحابها على الناس معلنين أنها موجهة للشباب المقبل على الزواج في بلد تلامس فيه بطالة الشباب الـ٤٠٪ والحدود الدنيا للأجور فيه بالنسبة للداخلين الجدد لسوق العمل لا تزال تحت الـ٢٧٠٠ جنيه التي تم إقرارها مؤخراً، ولن تنطبق إلا على العاملين في القطاع الحكومي والجهاز الإداري للدولة وهم لا يمثلون أكثر من ٢٠٪ من قوة العمل.
أمام هذه الحقائق حول التفاوت وحقائق الواقع الأكثر إيلاماً، المرتبطة بمعدلات تضخم كبير بطبعها وزادت الأزمة الأوكرانية طينتها بلة، يبقى المرء حائراً بين من يطالبونه بالتبرع ومن يستحثونه على الشراء في زد التجمع أو زايد، وغيرهما من الكمبوندات، بينما تشير تقارير رسمية إلى أن أكثر من ٧٠٪ من المصريين اضطروا للاقتراض من الأقارب والسلف من العمل والبنوك للتعايش مع أزمة كورونا.
مؤخراً بدأ البعض يدرك أن ظاهرة الاستعانة بنجوم الفن والرياضة لتقديم إعلانات تسويقية مبالغ في كلفتها، ومع زحف عدد أكبر من مشاهير المجتمع نحو سوق الإعلانات ورغبة هؤلاء المشاهير فى تحقيق أعلى عائد مالي بغض النظر عما يقدمونه يتزايد التفاوت أيضاً بين منتجي الإعلانات ومشاهيرها من جهة وبين المواطنين العاديين.
مصر العشة ولا القصر؟
تروّج إعلانات التطوير العقاري لفيلات أشبه بالقصور وشقق فارهة لجمهور التليفزيون العادي، بينما الحقيقة أن معظم الفئة التي يمكن أن تكون مهتمة بمثل تلك الإعلانات عادة لا تشاهد الأعمال الدرامية عبر شاشات التلفزيون العادي وإنما عبر شاشات نتفلكس وشاهد ومثيلاتهما، فلماذا الإصرار إذن على إزعاج ساكني العشش أو حتى المناطق الشعبية وبواقي المتوسطة الهشة بمثل هذه الدعاية الفجة لهذا التفاوت طيلة مشاهدتهم للمسلسلات؟
بينما تشجع الدولة المستثمرين والمطورين العقاريين والذين استحوذوا على أكثر من ٥٠ مليار جنيه عبر دعم التمويل العقاري ضمن حزم الإنقاذ التي ارتبطت بفيروس كورونا وفقاً للمجلة المصرية للتخطيط والتنمية، كان الناس البسطاء والجمعيات الأهلية هي المطالبة بتوفير المستلزمات الطبية للمستشفيات سواء عبر استغاثات من الأطباء والأطقم الصحية مباشرة أو عبر الدولة.
تنتشر تعليقات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي المصري مناهضة لمثل هذا التناقض بين الإنفاق الكبير على طلب التبرعات وفي نفس اللحظة الترويج للكمبوندات في إعلانات شديدة التقارب زمنياً أثناء عرض المسلسلات بينما أصحاب هذه الشركات العقارية لديهم المؤسسات الأهلية الخاصة بهم ويمكنهم تمويل ذلك مباشرة واستخدامه كدعاية لهم إذا كانت الدولة عاجزة عن توفير تمويل للمستشفيات مما تجمعه من ضرائب ورسوم، أو حتى عبر المساهمات المباشرة للشركات هذه في تطوير بعض المرافق مباشرة مع دعاية بسيطة الكلفة وواسعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو الحال بالنسبة لفكرة استخدام مذيعي الشارع في توصيل إعانات للفقراء.
العجيب أنه منذ سنوات تطلب مستشفيات كبرى مثل مستشفى سرطان الأطفال ٥٧٣٥٧ ومستشفى ٥٠٠٥٠٠ التابعة للمعهد القومي للأورام وغيرهما، تبرعات كبرى مرتبطة برمضان كموسم للإعلانات والزكاة وغيرها عبر حملات مبالغ فيها، وهي بالتأكيد لديها من الحاجات الموضوعية للتمويل ما يعلمه الجميع، لكن مؤخراً وفي العام ٢٠١٨ وتحت ضغط السوشيال ميديا والصحافة فتحت مسألة شفافية متلقي هذه التبرعات وكانت هناك قضية كبرى متعلقة بعدم شفافية مجلس إدارة مستشفى ٥٧٣٥٧ والتي تشير التقارير إلى حجم المصروف على إعلانات هذه المؤسسات المبالغ فيه إلى حد كبير؛ حيث أنفق المستشفى قرابة ١٦٠ مليون جنيه (نحو ٩ ملايين دولار) على حملاتها الدعائية سنوياً، وهو رقم كبير لا يتناسب مع طبيعة النشاط والهدف المرجو تحقيقه.
وثار الجدل حولها لأشهر بين القضاء والأطباء والمجلس الأعلى للصحافة، وتصاعدت تداعيات أزمة التبرعات التي حصل عليها مستشفى أورام سرطان الأطفال المعروف بمستشفى ٥٧٣٥٧، حيث قرر النائب العام المصري نبيل صادق حينها إحالة رئيس المجلس الأعلى للإعلام مكرم محمد أحمد إلى التحقيق أمام نيابة أمن الدولة، بعد قراره حظر النشر في اتهامات الفساد الموجهة لمسؤولين بالمستشفى، على خلفية تشكيل وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي لجنة لبحث الشكاوى المتعلقة بالتبرعات المقدمة للمستشفى.
وفي الوقت الذي تعاني فيه البلاد أزمة اقتصادية حادة بسبب سياسات لا دخل للمواطنين في أغلبها، تحدثهم الإعلانات والدعاية عن ضرورة التقشف وعدم التذمر من الأوضاع الاقتصادية، فيما تحثهم مسلسلات رمضانية على التمرد على الأسرة والاستقلال المادي وخوض صراعات بطريقة صفرية بين المرأة والرجل وبين أفراد الأسرة، في وضع يتم فيه تعديل القوانين دون مراعاة للسياقات الاقتصادية والاجتماعية وبمنطق استخلاص الحقوق من كل شخص دون الاقتراب من الدولة والواجبات المترتبة عليها تجاه القطاعات المختلفة.
والحقيقة أن التبرعات المختلفة لن تحل أزمات اقتصادية واجتماعية هيكلية خانقة ولا تواجه بطريقة جذرية وتظل مؤجلة وتورث للأجيال الأصغر، في ظل اقتصاد موجه لخدمة الديون والدائنين وينفق عليها أكثر مما ينفق على الخدمات العامة؛ مما يغيب العدالة ويقود لتدهور الخدمات العامة المرتبطة بالصحة والتعليم والسكن وغيرها؛ ما يجعلها تذهب أكثر لأبواب التبرعات والهبات والصدقات، التي تذهب للعديد من الجمعيات والصناديق وتظل مجهولة من حيث مجموعها أو تفاصيل إنفاقها والتي هي حق للمواطنين جميعاً سواء كانوا متبرعين أو متلقين للتبرعات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.