في طفولتي كانت أمي تنتظر فقرة الإعلانات لتتأمل ردود فعلي السعيدة، خاصة على ذلك الإعلان الكرتوني لإحدى أنواع الشيكولاتة، ما إن يبدأ حتى تتسع عيناي وأنفصل عن العالم، ثم لا ألبث أصفق وأضحك، كان هذا يسعدها جداً، وقد تكرر الأمر مع أكثر من إعلان لاحقاً، مثل ذلك الخاص بإحدى ماركات الأثاث المصرية، والذي كان قادراً على إلهائي والاستحواذ على تركيزي منذ لحظة البداية وحتى ينتهي، هكذا صارت إعلانات تلك الفترة من بدايات العقد الأخير في القرن الماضي جزءاً من ذكريات طفولة سعيدة عامرة بالمرح.
قليلة لكن ممتعة
لا أذكر أننا كنا نتضجر من فقرة الإعلانات أو نشعر بها أصلاً، في الواقع كانت فاصلاً من المرح، بموسيقى رائقة تارة، ورسوم كرتونية ممتعة، تضحكنا تارة وتأخذنا إلى عوالم مختلفة لطيفة تارة أخرى، حتى صارت جزءاً من الوعي الجمعي.
سواء كانت لماركة حلوى، أو محل أثاث، أو حتى نوع صابون، كان المعروض لشركات مصرية في الغالب، بإمكان المشاهدين على اختلافهم أن يمتلكوا المنتجات المعلن عنها بسهولة، هكذا كنت أشاهد إعلاناً عن سامبا فأشتريها، وتتابع أمي إعلاناً عن سافو فتشتريه، لم يكن المعروض عصياً ومخيفاً وغريباً كما هو الحال الآن.
رغم عددها المحدود وتوقيتها القصير جداً، ومرات عرضها المعدودة في اليوم الواحد، مازلت أحفظ أكثرها عن ظهر قلب، كان الأمر بسيطاً جداً، بلا أي تعقيد، يظهر الإعلان فيعرف الناس المنتج ويشترونه دون أن يبدر منهم السؤال الشهير "هو الإعلان بيتكلم عن إيه؟"، أو تكون هناك حاجة للبحث عن "العلامة التجارية" وسط غابة من المشاهد المتسارعة والتفاصيل الدقيقة العديدة، فقط لنفهم -كمشاهدين- من هو المعلن، وما الهدف من الإعلان أصلاً.
"إديله 200 جنيه وطلعه بره"
في اليوم الأول من رمضان كنت أجلس إلى جوار والدتي، يهدر التلفزيون بعشرات الإعلانات، دون أن أنتبه لأي منها، حتى استوقفني هذا الإعلان بالذات، لم أصدق عيني أو أذني حين سمعت الحوار ورأيت الفكرة عقب التنفيذ.
إعلان لماركة ملابس داخلية، يظهر خلاله مريض داخل عيادة طبيب، حين يخلع قميصه ليكشف عليه الطبيب تبدأ ملابسه المهترئة في غناء أغانٍ حزينة، وتظهر علامات الذعر على وجه الطبيب والممرضة، كيف للمريض أن يرتدي ملابس قديمة تحمل رقعاً بهذا الشكل، بداية من قميصه وحتى شرابه، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد.
يتراجع المريض للخلف باشمئزاز، وتبدأ الممرضة في التساؤل: "أما هدومه الداخلية عاملة كده أمال بوكسراته عاملة إزاي؟"، ثم لا تلبث أن تقول الجملة الأكثر غرابة على الإطلاق: "انت شبه صاحبي القديم مكنش بيلبس دايس، الله يرحمه بقى" ثم يعالجه الطبيب بمنتهى الازدراء: "أنا مستغرب العيانين اليومين دول مش لابسين دايس ليه؟ ما تجيبوا دايس يا جماعة"، ثم ينهي الحوار قائلاً: "إديله 200 جنيه وطلعيه بره"!
هتفت: "سوف يوقفون هذا الإعلان بكل تأكيد"، تصورتُ أن السبب سوف يكون جملة "صاحبي" التي قالتها الممرضة بأريحية، بالفعل تم وقف الإعلان في اليوم التالي، حيث أعلنت هيئة المكتب بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، في بيان لها، أنه تم وقف عرضه بعد رصد عدد من المخالفات للمعايير التي حددها المجلس للإعلانات والبرامج، مثل:
مخالفة كود الأخلاق الذي نص على عدم التحقير من الأشخاص
مخالفة كود الأعمال الدرامية والإعلانية، خاصة بند رقم (4)، الذي ينص على عدم اللجوء إلى الألفاظ البذيئة وفحش القول والحوارات المتدنية والسوقية
مخالفة المادة (16) من لائحة الجزاءات، والتي تنص على أن استخدام ألفاظ تؤذي مشاعر الجمهور مُخالَفة تقتضي توقيع الجزاء على المخالف
اللافت أن حديث الممرضة عن "صاحبها" لم يكن السبب الأساسي كما توقعت، ولكن السبب كان "الإساءة إلى الأطباء والتنمر على الفقراء وعلى الملابس الممزقة".
الاعتداء على النستولوجيا
في إعلان لشركة الاتصالات المصرية أورانج تفتق ذهن صناع الإعلان لاستخدام اللحن الخاص بعدد من أغاني سعاد حسني، مع كلمات مختلفة، هكذا تحولت "الدنيا ربيع" إلى "رمضانا ربيع" و"بمبي بمبي" إلى "هوي هوي"، و"يا واد يا تقيل" إلى "ياه ياه الجو جميل"، حسنا لن أتحدث عن ركاكة التحويل، ولكني أتساءل عن اختيار الممثلات، ورداءة الفكرة، لم يحدث سوى مقارنة ظالمة بين كل من نيللي كريم ومنى زكي ودينا الشربيني وبين سعاد حسني، والتي جاءت قطعاً في صالح الأخيرة، من حيث جمال الصوت وقوة الأداء وحتى القبول، نجح الإعلان فقط في إثارة ضيق المشاهدين، وأنا منهم "في حاجة غلط" هكذا شعرت، أن كل هذه الأموال المهدرة بهذا القدر الفج ذهبت سدى، شاهدت الإعلان مراراً وتكراراً فلم أفهم حقاً ما المراد، ما المكسب من ربط رمضان بالربيع؟ ماذا بعد؟ إن كانت هذه هي الرسالة فما هو وجه الفائدة المرجو منها؟
أعتبر هذا الإعلان إساءة لسعاد حسني، ولبطلاته الثلاث، اللائي فقدن جزءاً من بريقهن حين تم وضعهن في مقارنة لم تنجح رغم كل الإبهار والإنفاق ببذخ، وأظهرت الفارق الشاسع في الروح والأداء، باختصار اعتداء على النستولوجيا وضرب لها في "مقتل"، تكرر هذا بنفس القدر في إعلان لشركة عقارات قررت اللعب على وتر الحنين إلى الماضي أيضاً، فاستعانت بعدد من الوجوه المميزة مثل سيمون وهشام عباس وحميد الشاعري باعتبارهم من الجيل القديم: "لو عيشتو وشوفتوا ليلة واحدة من الفوازير، فطوطة ونيللي وهزار بوجي فاتكو كتير، ومسلسلات عالإيد تتعد اللي يفوتك ملوش إعادة، كلنا قاعدين مش ناقص حد" حتى هذه النقطة كانت الأمور جيدة، ثم بدأت تظهر ليلى أحمد زاهر، ومغني راب شاب باعتبارهما ممثلين للجيل الجديد، وبدا الأداء أيضاً لطيفاً، لكن فجأة ودون مقدمات ظهر كل من أحمد السقا وهند صبري -ليست مصرية أصلاً- باعتبارهما من الجيل الوسيط المنسي، هكذا احتلا الجزء الأكبر من الإعلان.
حسناً كيف يمكن لإعلان يضم ثلاثة أصوات مثل حميد الشاعري وسيمون وهشام عباس، أن يتم اختزالهم وجعل الصوت الرئيسي والمساحة الأكبر في الإعلان لـ"أحمد السقا"، للأسف لم يكن الصوت مستساغاً، وبدت الذكريات التي يمثلها مفتعلة جداً "ما احنا الوصلة بين جيلين رمضاننا أحلى من كده، يا ابو كف رقيق يا واحشنا، ومعاك عالمدفع عيشنا، وحمادة عزو اتربى في عزو كان بيقول ونقولها معاه"، بدا الأمر غريباً، فأحمد السقا المولود في السبعينات لا يمثل جيل بكار وحمادة عزو، تلك الذكريات التي عاشها جيل التسعينات، هكذا تحولت البداية الموفقة للإعلان إلى مأساة إنسانية، وصار إعلان "مدينة نصر للإسكان والتعمير" مادة للتندر عبر مواقع التواصل، بسبب "أحمد السقا".
ممثل واحد وإعلانات كثيرة!
أتساءل، هل يطرح منتجو الإعلانات السؤال على أبطال إعلاناتهم، هل يشتركون في إعلانات أخرى؟ أشعر بانعدام الاحتراف حين أرى وجهاً في إعلان، ثم أعود لأراه في الإعلان التالي، هكذا صرت أشعر بالملل كلما رأيت عمرو دياب في إعلانات رمضان، تهدر صورته بالفكرة ذاتها تقريباً من إعلان لآخر، تحت شعار "استمتع بحياتك"، هكذا يستعينون به في شركة فودافون كل عام تقريباً، وكأنه الاختيار الأغلى، ولكن الأسهل، تتكرر أغنيته ملايين المرات حرفياً خلال الشهر الكريم، وصلت في ثامن أيام رمضان فقط إلى أكثر من 18 مليون مرة مشاهدة، ثم يظهر في الإعلان التالي، البريد المصري، في واحد من أكثر الإعلانات استفزازاً على الإطلاق، مع رسالة ساذجة جداً، الحق أن استفزاز إعلان "السر" يكمن في اسم المكان الذي دفع لأجل إنتاج الإعلان، البريد المصري، والذي يعاني أكثر مستخدميه من الزحام الشديد حول فروعه المختلفة في أنحاء الجمهورية، حيث الكثير من الخدمات العظيمة وقليل من الموظفين والمساحات، الاستفزاز ذاته شعر به كثيرون، من بينهم النائب محمود قاسم، عضو مجلس النواب، وقال: "البيان الإعلامي الذي قامت هيئة البريد بنشره بمختلف وسائل الإعلام حول إنجازات البريد محلياً وإقليمياً مجرد شو إعلامى، ومحاولة فاشلة للتغطية على إهدار ملايين الجنيهات في الحملات الإعلامية لهيئة البريد، التي أطلقتها هيئة البريد خلال شهر رمضان المعظم عبر مختلف الفضائيات".
كلما تكرر الإعلان أتساءل عن اسم البريد المصري الموضوع في أسفل ركن الشاشة وإلى جواره شعار عمرو دياب الشهير "ع د"، وكأن الاثنين على القدر ذاته، ثم يظهر بطل الإعلان وهو يمارس الرياضة في منطقة القلعة، وهي منطقة لن تخطوها قدم الفنان الشهير في الواقع أبداً، ثم يظهر وقد أمسك فأساً ويبدأ في ضرب إطار سيارة ضخم، يركض في صحراء المقطم، ونفق الأزهر، مع ملامح مرهقة ووجه منهك، يواصل الركض في منطقة وسط المدينة في القاهرة، والتي تزخر بوسائل المواصلات في الظروف العادية، قبل أن يهتف في النهاية "بالإصرار والكفاح هتلاقي النجاح.. كل وقت هيعدي عليك هيبقى وقتك"، يبدو أن الاستفزاز تسرّب إلى أحد المحامين الذين قاموا بتقديم بلاغ إلى النائب العام، حيث اعتبر أن الإعلان في الأساس عن عمرو دياب وليس البريد المصري.
بالملابس ذاتها تقريباً مع اختلاف الألوان سوف ترى أحمد عز في كل من إعلان مصر إيطاليا، واتصالات يقدم الأداء ذاته، بنفس الطريقة، وبنفس الفكرة "الولد الجان" الذي يحاول إبهار حبيبته باستمرار!
وعلى الطريقة ذاتها صرت أرجع إلى اسم العلامة التجارية في ركن الشاشة لأتأكد من اسم الشركة التي يقوم كل من الثنائي أسماء أبو اليزيد وهدى المفتي بالإعلان لحسابها، الوجهان نفسهما يظهران في إعلان لماركة مواقد شهيرة تدعى لاجيرمانيا، وإعلان آخر لـ"زد بارك".
بداية مريبة.. يا معافر
الأغنية التي تصدرت التريند في 24 ساعة على مستوى الوطن العربي حظيت بمرات استماع قاربت على الـ30 مليون مرة، لفرط جمالها وعذوبة غناء شيرين، وطلتها المميزة التي ذكرتني بظهورها الأول، لكن الأغنية لم تسلم بدورها، ففي البداية يهتف مجموعة من الأطفال بصوت غير واضح "يا معافر يا معافر"، لكنها تبدو منهم وكأنها تنمر، وكلمة أخرى، هي سُبة في الواقع.
بالرغم من جمال الإعلان الذي أعتبره الأجمل والأصدق هذا العام، فإن أحداً من المواطنين العاديين الذين لا يجيدون القراءة لا يمكنه أن يُدرك -لحظة- أن الإعلان خاص ببنك مصر، أغنية رائعة وتصوير جميل وهدف نبيل، اعتقد الكثيرون أنها لمستشفى 57357، في الواقع نفس طريقة التفكير على مدار السنوات الماضية، أغنية محفزة وصوت جميل ومساحة كبيرة، ثم لا شيء أكثر من ذلك.
الرجل المناسب في المكان المناسب
"قرار الأمان النهاردة هو اللي بيوصلك لراحة البال بكرة"، بهذه الكلمات وبصوت مؤثر يبدأ سيد رجب الحديث في إعلان مصر للتأمين على الحياة، الرجل الذي واجه اتهامات مثيرة من زوجته، قالت خلالها إنه قام بطردها وأنكر حقوقها المادية، وأنها لم تعثر عقب العشرة الطويلة معه على "الأمان"، ربما كان الاختيار الأسوأ للشركة، لا تزال قضيتهما معاً أمام ساحات القضاء، لكن ما أثير خلال الفترات السابقة كان كفيلاً بجعله الاختيار الأخير، لشركة ترغب في بث الأمان في نفوس عملائها، لكن حدث أن ظهر في الإعلان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.