السنة الثالثة بعد الألفية الجديدة.. يوم من أيام الشتاء العراقية المشمسة.. تتداخل الفصول بعضها ببعض لتمضي السنة صيفاً طويلاً حارقاً (يصمط صمط) وشتاءً قليلاً شحيح المطر تتخلله أيام برد قارس (أزرك).
أتذكر إن لم يكن يومها قائظ الحر رغم سطوع شمس الظهيرة فلنفترض أنه كان برداً وسلاماً.
الأمر يا سادتي أنه دونما تذكير وسابق إنذار لاح في ذهني ذكر "صالح".
كيف جاء صالح في بالي دون سابق مقدمات؟ خاطر نبش في الذكريات الدفينة منقباً عن ذكرى كانت قبل هذا نسياً منسياً. كيف تتفجر الذكرى فجأة في البال، تُنعِش الخيال، باعثة الروح فيه أمامك في الحال؟ هل منظر نارٍ عابرٍ أشعل في الذاكرة لهيب الذكريات القديمة باعثاً الروح فيها من جديد؟
هي النار نور وحياة وهي حريق أكل من جسم (صالح) الكثير من الأشلاء.
إذنْ هي النار يا سادة.
حياة ودفء وموت وعذاب.
كنا في الطريق حافلتين (باصين) محملتين بشباب كثير ملؤوا المقاعد مع قليلٍ من الشَيَبة. راحلين تلقاء النجف لزيارة ضريح الإمام عليّ، فصل بين الحافلتين مسافة وقتٍ قاربت الساعة وفي الساعة موت قادم ونار سَتَلهَب ودمٌ سيُسكب.
لم أكن أعرف صالحاً منذ طويل الأمد، فبالكاد معرفتي به سنة أو اثنتين لدى ذهابنا لحفل عرس أحد الأصدقاء زيارة عابرة.
أتعرف أن تُلقي بك الصدف بمكانٍ تلتقي به القلوب وتتحاب، فتجد في إنسانٍ طيبة روح وجمال أخلاق وأريحية تُشعِرك أنك تعرفه منذ سنين طويلة؟
كان هذا هو صالح ببساطة.
كلا السائقين باختلاف الطريقين كانا ينشدان اللحاق بالأفق البعيد قبل احمرار الغروب.
أم تراها كانت صدفة شاءت أن تتجمع ظروفها ظرفاً واحداً قاتلاً قبل حدوث المأساة ووجع القلب ودموع انسكبت وآلام حَقّت؟
كانت "سيارة نقل" معبأة بالتمر اصطدمت بأخرى محملة بالبشر.
اختلط دبس التمر بقاني الدم.
دم التمر على الأرض مبعثر.
أتذكره ضاحكاً رغم أنه كان اللقاء الأول معه فكان يَضحك ويُضحك من هو أمامه من دون تعقيدات التعرف.
هكذا بكل بساطة يجري الحديث وتضيع في مجراه وكأنك مع صديقٍ قديمٍ لا وجهٍ جديدٍ قد التقيت به للتو.
في المستشفى كان يئنّ كثيراً ورأيناه كذلك في زيارته، فنسبة الحرق في جسمه كبير والألم ينبثق من صميم القلب أكبر وأمل النجاة أصغر.
منظر كئيب يكسر الخاطر.
هذا الضحّاك الذي كثيراً ما أضحك من يعرفه ومن لا يعرفه تراه يصرخ من سكاكين الوجع التي تقطع جلده المتهرئ من فرط الحريق.
يلتفت لي بعينٍ حمراء واحدة مفتوحة تجمد فيها الدمع والدم وأثر النار وهي تنطق بالنظرات حسرات وآهات أن يا من أحييت رميم العظام هلا أرحتني.
عينه الأخرى غافية لا تتفتح.
كنت في الباص الذي في الخلف وبيننا ساعة من الزمن في طريق سماوة العراق وتراب الصحراء يتطاير من على جنبات الطريق أن يا مركب الموت اهبط بأرضنا فالطريق أمامك أفعى لا أمان لها.
قيل لي -ولا أتذكر متى بالضبط- أن أُنتزع جسد خالد من على محرك الباص المكشوف حيث التصق هو والمحرك كلاهما ميتين جسداً وحديداً لا حراك فيهما.
كان من المفترض أن ينتهي مشوار خالد الجامعي وحبه لفتاة أحلامه في الجامعة لزواج ومودة ورحمة وهو الذي كان عندما يلتقيها تراه خجولاً ولو لم يكن أسمر لانبثق الدم في خديه أحمر.
كان يكتب الشعر جميلاً رغم أن ملامح وجهه توحي بأنه قد أخذ الحياة والعيش بصرامة وجدية، لكنه متى تحدثت معه تحبه على الفور وتستأنس بلقائه وحديثه وتنسى شكل حاجبيه المطبقين بغضب دون أن يغضب.
هكذا كان تشكيلهما طبيعياً تعطي من لا يعرفه انطباعاً أنه جديّ غاضب عصبي على الدوام، ولكن من يعرفه يعلم أنه كيان من طيبة ومودة.
كان مجموع مَن غيَّبهم الموت أحد عشر شخصاً، آخرهم صالح، الحي الميت الذي التهمت منه النار الشيء الكثير.
كان على هذا الحال لبضعة أيام.
الزيارات له في الطابق العلوي في مستشفى صدام (سابقاً) الحسين (حالياً) كثيرة تتجمع فيه ذكريات من ماتوا في جسدٍ حي شبه ميت.
فاضت الروح لبارئها على حين غرة.
وعلى حين غرة، ذاع الخبر وسطنا والكثير من الناس فاقتضى الأمر تشييعه سيراً لبيت أهله ومن ثم للشارع العام حيث ستنتظر سيارة لتقل الجثمان لحفرته الأخيرة.
فجأة وفيما بدا التشييع صغيراً وعادياً ثارت أهزوجة وثانية وثالثة رددها قليل الحاضرين لتجذب انتباه الناظرين فينضمّوا لجمع المشيعين.
حاولت أن أعصر ذاكرتي لتذكر أية أهزوجة كانت فلم أتذكر.
كلما طال المسير زاد الغفير.
تتجمع الناس من كل حدبٍ وصوب جماهير من البشر هاتفة صائحة متمردة على ترهيب الحزب والثورة ومديرية أمن الناصرية العامة.
لم تكن صيحات (لا إله إلا الله) في تلك اللحظة وببعدها العميق قاصدة التوحيد نداءً فقط، بل (لا) للظلم و(لا) للقمع و(لا) لحياتنا البائسة الضائعة في دهاليز السياسة الفاسدة.
يقطع الطريق أخو خالد ليلقي قصيدة كان قد كتبها (خالد) وأنا أعلم أن خالداً شاعر شعبي، فتعلو الصيحات بالهتافات وصراخات الحزن من دون حتى الإصغاء للكلمات، حاولت دون جدوى أن أصغي ماذا قالت روح خالد في تلك اللحظة، ولكن الصياح عظيم.
الضجة كبيرة والناس تفجرت قلوبها (المكبوتة) من جحيم الظلم الذي أحرق البلاد والعباد وأخو (خالد) يصيح بكلمات القصيدة والورقة في يده سطع الشمس فيها أن يا (خالد) لك ذكرى ولك صيحة في هذه الثورة.
كانت ثورة حناجر متفجرة صارخة (محرومة) وليست تشييعاً لميت.
لا زلت أتذكر وجه أم صالح الباسم الحزين ووقفتها المهيبة بباب دارها مدلية عباءتها وربطتها لخصرها.
تشير رافضة دخول التابوت للبيت فما رأته من تشييع جماهيري كبير أراح القلب وواسى الوجدان أن لهذا الإنسان آلاف الإخوة.
منعت منظمة حزب البعث في المنطقة ومديرية الأمن إقامة مجلس الفاتحة.
طوقوا "حي الشهداء" شهراً أو اثنين تخللتها مضايقات واعتقالات لكل من شكوا به أنه سار صوب بيتٍ من بيوت الضحايا.
كان لكبير البعثيين في تلك المنطقة صولات وجولات في منع إقامة مجلس العزاء متأبطاً سلاحه ومعلياً بالترهيب جناحه نافخاً صدره مُعلِياً صياحه بأقذر الألفاظ.
كانت تلك الحادثة بتاريخ الخامس والعشرين من الشهر الثاني لسنة (2003).
يا لَسخرية القدر.
بشر نسي أنه زائل فعاث في الأرض فساداً وتنمّر.
فبعد شهر.
ولوا الدبر.
سقط نظام حكم الأمن والمخابرات والمنظمات الحزبية واختبأ من كانوا يسومون الناس سوء العذاب إهانة واعتقالاً وتعذيباً. سبحان مغير الأحوال!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.