انطلقت الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستستمر حتى يوم 25 أبريل/نيسان، حيث يتوجه الفرنسيون نحو مراكز التصويت لاختيار رئيسهم القادم للمرة الثانية عشرة منذ بدء الجمهورية الخامسة، في ظروف حساسة داخلية وخارجية تطبعها الحرب الروسية- الأوكرانية وانقسام الطبقة السياسية الفرنسية وآثار جائحة كورونا التي لا تزال تُلقي بظلالها على البلاد بتداعياتها الصحية والاقتصادية وحتى السياسية.
لا تلقى الانتخابات الفرنسية هذه المرة ذاك الصدى الذي لطالما حظيت به دولياً، وقد تكون ربما ضحية للمعايير اللاموضوعية للإعلام الدولي الذي لا يرى لحد الآن سوى ما يسميه "الغزو الروسي لأوكرانيا" بعد جائحة كورونا، إضافة لحالة شبه اليقين التي ينظر بها العالم للرئاسيات الفرنسية باعتبارها إجراء روتينياً لن يحمل جديداً في الساحة الدولية لأسباب تتعلق بتراجع النفوذ الفرنسي دبلوماسياً وعسكرياً وحتى اقتصادياً من جهة وللمحورية التي تحكم المواقف الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي تحدد خط الانطلاق والوصول لأوروبا، وبينهم، بالطبع، فرنسا.
على عكس ذلك، يتضح جلياً اهتمام الرأي العام الداخلي بهذا الاقتراع، من خلال الحراك الاجتماعي والسياسي الحاصل والحملة الانتخابية النشطة، ساهم في هذا ظهور أسماء مترشحة جديدة حركت المشهد السياسي الراكد منذ سنوات، وإيمان الفرنسيين أنفسهم بأنهم معنيون أكثر من أي وقت مضى بعد أن مستهم مشاكل عديدة بدءاً بتراجع القدرة الشرائية مع زيادة التضخم والأزمة الطاقوية التي أدت لارتفاع أسعار الغاز وجائحة كورونا التي عرت النظام الصحي، إضافة إلى مشاكل اجتماعية تتعلق بالمهاجرين، وعسكرية أمام تزايد الخطر الروسي شرقاً.
ما يطبع المشهد الانتخابي في فرنسا، أساساً هذه المرة، هو تزايد المد اليميني المتطرف الذي أصبحت أفكاره أكثر شعبوية وتقبلاً أكثر من أي وقت مضى لدى الجماهير، أمام تيار اليسار الذي يبدو أقل إقناعاً للفرنسيين، خصوصاً أمام النقائص التي تشوب إدارة الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وحزبه "الجمهورية نحو الأمام" في تسيير جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية التي لا تزال تضغط على اليسار الحاكم مقابل منح نقاط أكبر لليمين، وخاصة المتطرف منه.
هذا الأخير يعتبر نظرياً ممثلاً بثلاثة مترشحين اثنان منهم وجهان نسويان هما مارين لوبان رئيسة الجبهة الوطنية و"فاليري بيكراس" وزيرة سابقة، بالإضافة إلى آخر جديد هو الصحفي والناقد إيريك زمور الذي يبدو أنه صاحب الزخم الكبير الذي تتمتع به هذه الرئاسيات، في المقابل نجد إيمانويل ماكرون وجون لوك ميلونشون رئيس "فرنسا الحرة" الوجهين الأبرز في اليسار، بينما يتبقى سبعة آخرون من اشتراكيين وبيئيين الذين لا يُتوقع منهم تغيير كبير في نتائج هذا الاقتراع.
إن الشعبية التي اكتسبها اليمين المتطرف مؤخراً في فرنسا لا غبار عليها نظرياً من خلال الحاضنة الشعبية التي تكبر من وقت لآخر، لكنها تبقى قيد الشك في قدرتها العملية على منحه الكلمة العليا في هذه الانتخابات، وعلى الرغم من أن الأفكار القديمة التي يتبناها التيار تعود في الحقيقة لزمن الجمهورية الرابعة فإنه استطاع جذب أنصار جدد نحو صفه، خصوصاً تلك التي يتبناها إيريك زمور المرشح الأكثر تطرفاً، القائمة بالأساس على ملفي الهجرة والإسلام باعتبارهما المحرك الأبرز للجدل الانتخابي والموضوع المحوري لهذه الرئاسيات؛ حيث يروج هؤلاء لفكرة "الاستبدال الكبير" (Le grand remplacement) كمصطلح مقتبس من السياسي والكاتب "رينو كامو" الذي أسس له في كتاب له سنة 2010 لأجل التدليل على خطر المهاجرين العرب المغاربة والمسلمين كتهديد ديموغرافي وحضاري وديني للوجود المعنوي للأمة الفرنسية، داعين إلى خطة صفر مهاجر من خلال فرض قيود واسعة على التأشيرات والممتلكات ومحاصرة "الإسلاموية الانفصالية" بتحييد المساجد والجمعيات الإسلامية والممارسات الدينية والشعائرية للمسلمين، بالإضافة إلى حظر تعليم اللغة العربية وحصرها في المؤسسات التعليمية الحكومية.
وبمثل ما قد تعكس هذه التوجهات الإفلاس المعنوي والفكري للطبقة السياسية الفرنسية المتخبطة التي لم تنفك خطاباتها الانتخابية تخرج من دائرة المهاجرين والديانة الإسلامية (لا يمثلون سوى تسعة بالمئة من عدد السكان) بقدر ما تكشف عن حالة التحايل التي تمارسها ضد الناخبين لجلب أصواتهم، فمرشح مثل إيريك زمور ذي الأصول البربرية الجزائرية- لدرجة أن لقب عائلته أمازيغي ووالديه من يهود قسنطينة- يحاول أن يقنع الفرنسيين أن المهاجرين الجزائريين هم السبب الرئيسي في أغلب المشاكل التي تعيشها فرنسا، ويريد من الفرنسيين الأصليين أن يصوتوا له وهو نفسه مهاجر ليصبح رئيساً ويمنع الهجرة. بعد أن قضى سنوات يحضر فيها لحملته الانتخابية باسم محاربة الهجرة والإسلام انتهى ببرنامجه الانتخابي الذي لم يخصص سوى نصف صفحة لهذا الملف من أصل 64 أخرى. لقد كان المهاجرون مجرد سُلم لارتقاء الشعبوية المطلوبة لسياسيين مفلسين.
من جهة أخرى، يحظى إيمانويل ماكرون بحظوظ وافرة، حسب استطلاعات الرأي، للمرور براحة نسبية إلى الدور الثاني على الرغم من النقد الذي تلقاه دورياً تجاه نقائص كثيرة شابت فترة حكمه؛ من إدارته لملف جائحة كورونا المفاجئة إلى الغيبوبة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، مروراً بتراجع نفوذها السياسي والعسكري في مناطق عديدة خصوصاً في مستعمراتها الإفريقية السابقة، والأداء الضعيف للدبلوماسية الفرنسية خلال الأزمة الروسية-الأوكرانية، لكن يتضح أن الفرنسيين راضون لحد ما بما قدمه رئيسهم في ضوء المترشحين المتاحين، لهذا ففوز ماكرون إن أتى سيكون لضعف منافسيه أكثر من قوة ماكرون نفسه، الذي فقد البوصلة في تعاطيه مع أزمات واختبارات عديدة مع تضارب مواقفه المعلنة بين الحين والآخر لسياسي يبدو أنه يحاول إرضاء من لن يستطيع إرضاءهم.
بالنظر إلى المعطيات المتاحة والمشهد السياسي ونتائج سبر الآراء يكون الاستشراف بانحصار المنافسة بين الرئيس الحالي ماكرون والمترشحين اليمينيين الثلاثة "زمور- لوبان – بيكراس" أكثر وضوحاً، ومما لا شك فيه أن كلا الطرفين لا يستطيع توجيه الضربة القاضية، بمعنى أن حتمية المرور إلى الدور الثاني لا مفر منها، خصوصاً مع تشتت الوعاء الانتخابي بين 12 مترشحاً كاملاً الذي لا يستثنى منه وعاء اليمين المتطرف المنقسم هو بذاته، لكن مع ذلك تبدو قدرة أي أحد من مثلث اليمين على هزيمة ماكرون محل شك كبير لأسباب عديدة، أهمها إدراك الفرنسيين عدم واقعية ما يسعى إليه اليمينيون في ملفات عديدة، وطابعهم الشعبوي مقابل الخطاب العقلاني والواقعي للرئيس الحالي، وقوف رجال الأعمال كأكبر جماعة ضغط في الجمهورية الفرنسية إلى جانب ماكرون ضد خطط اليمين المتطرف الذي يهدد مصالح البرجوازيين من خلال قطع حبل الهجرة وهو ما يعني قطع اليد العاملة المتشكلة أساساً من المهاجرين المغاربة، عدا ذلك وقوف اللوبي الإعلامي بقيادة جريدة (Le Monde) للأفكار اليمينية المتطرفة باعتبارها مسوقة لفكرة فرنسا ثم الجمهورية بعكس ما يؤمن به بعالمية الجمهورية الفرنسية المتفتحة (Universialisme).
فيما يخص الجالية العربية والمسلمة في فرنسا، قد يمثل جون لوك ميلونشون بتوجهاته المعتدلة الخيار الأمثل، لكنه مع ذلك يبقى ورقة مستبعدة في ضوء الاستقراءات والتوقعات الأكثر منطقية؛ لذا فاستمرار الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ضد صعود اليمين المتطرف إلى الحكم سيعتبر بمثابة خير الشرين، وقد يكون هذا مهماً بنفس القدر للأنظمة الحاكمة في بلاد المغرب العربي التي على خلافاتها مع ماكرون ستحبذ التعامل معه مقارنة بمرشح يهدد بمصادرة أملاك المسؤولين المغاربة حال عدم تعاونهم في إيقاف الكتل البشرية المهاجرة إلى شمال المتوسط، نحو بلاد لا تزال لم تتقبل أن ثاني أكبر ديانة فيها هي بالضرورة جزء يجب تقبله الآن منها!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.