في كل عام نُتابع موسم الدراما الرمضاني بشغف بحثاً عن عمل أو اثنين يمكننا القول بأنهما يتميزان بخصائص فنية كافية، وتم تقديمهما من أجل التعبير عن الناس، لأن الفن إذا لم يشكل مدخلاً لفهم مشكلات المجتمع الذي يجسده، وإذا لم يتلاحم مع قضية إنسانية بطريقة جادة فإنه لا يستمر، ليس لأعوام كثيرة أو طويلة، ربما لا يستمر حتى نهاية الموسم الرمضاني الذي تم اعتماده منذ سنوات كموسم إنتاج أفضل أعمال الدراما.
فاتن أمل حربي.. حجر في مياه راكدة
تطل نيللي كريم هذا العام على متابعيها بمسلسل "فاتن أمل حربي" من كتابة "إبراهيم عيسى" الذي يُعد أحد أهم إعلاميي وكُتّاب الوطن العربي من خلال تاريخه الإعلامي والصحفي الطويل، ومن خلال آرائه التي دائماً ما تُسبب الجدل وتُحدث معها حراكاً عاماً على أصعدة سياسية واجتماعية ودينية.
وكما هو متوقع، فمع أولى حلقات "فاتن أمل حربي" الذي يقتحم به إبراهيم عيسى مجال الدراما للمرة الأولى بعد العديد من الأعمال السينمائية والأدبية، فإن المسلسل وبعد حلقات معدودة تسبب في حالات جدال واسعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج "التوك شو".
يتناول "فاتن أمل حربي" حياة امرأة تُدّعی فاتن تنفصل عن زوجها في الحلقة الأولى.
تقول قريبة لها مُعقبة على خبر الطلاق: "هتكوني زي الفرخة المنتوش ريشها في وسط الناس".
تلجأ فاتن للطلاق لأسباب عديدة يتم عرض أجزاء منها مع بداية كل حلقة. في الحلقة الثانية من "فاتن أمل حربي" يستشهد زوج فاتن في حديثه معها عن الأمور المادية للبيت بأن الرجال قوامون علی النساء فتجيبه قوامون بـ"البرطعة والنطاعة". تطالبه زوجته بكتابة السيارة باسمهما معاً لتحملها نصف ثمنها معه ورغم ذلك فإنها باسمه فقط، وبالرغم من أنها تساهم في مصاريف البيت مثلما يساهم، بل في أحيانٍ كثيرة أكثر منه لتحملها تكاليف مشاريعه التجارية الفاشلة وبيعها لمصوغاتها فإن هذا يبدو غير كافٍ للزوج الذي يعتدي عليها ضرباً وهو يردد: "قوامون ولا مش قوامون!".
في عالم ما زال منقسماً ومستقطباً يتم فيه التمييز بين الأشخاص من خلال صبغهم بألوان مثل الأبيض والأسود، يبحث ويرغب البعض في ظهور دراما متعددة الألوان، ولتكن رمادية، لتدل على امتزاج الخير والشر، أو أي لون به من الحقيقة والواقع أكثر من الخيال.
ففي ظل تدهور المُنتج الفني المصري منذ عدة سنوات لانعدام الكتابة الفنية الجادة بسبب عدة عوامل أبرزها تراجع مفاهيم الفن والمجتمع وانفصال كُتاب الأعمال عن الواقع المصري أو تقديمهم له بعدة صور غير حقيقية كمسلسلات رمضان التي تناقش مشاكل الطبقات العُليا والتي يتم تصويرها في أفخم القصور والمنتجعات، أو الأعمال التي تُقدم أبناء الطبقة الشعبية علی أنهم نصابون وسارقون يعيشون حياتهم اليومية بالفهلوة والبلطجة فإن كل ما ظهر خلال سنوات لم يكن جيداً بما يكفي ليستمر في الوجدان باستثناء عدة أعمال متنوعة يمكن حصرها على أصابع اليد تنوعت ما بين الكوميديا الهزلية الساخرة أو الاجتماعية الدرامية.
في مصر بات التلاحم مع التابوهات أمراً شبه مستحيل بعدما أصبحت أي كتابة سياسية تشكل تهمة إساءة للوطن وتُعرض صاحبها للمساءلة، وبعدما أصبحت أي كتابة عن مشكلة ذات بعد جنسي حساس تعد عملاً يمس بقيم الأسرة المصرية. أصبحت المسائل المتعلقة بالدين هي الضلع الأخير في مثلث المحرمات العربية، والمقصود هنا ليس المساس أو نقد الدين نفسه، بل التعامل بحذر مع المسائل الدينية التي التحمت وتشابكت مع الموروث الشعبي والأعراف التقليدية القابلة للنقد والنقض على حد سواء.
في " فاتن أمل حربي" تتجه فاتن لسؤال الشيوخ بعدما أقرت بأن قانون الأحوال الشخصية ظالم للمرأة ولا ينصف حالتها كامرأة مُعنفة يتعامل معها طليقها بخسة ووضاعة ويعرضها للتشرد هي وبناتها.
تتجه فاتن لإيجاد فتوی دينية تُمكِّنها من الاحتفاظ ببناتها في حالة زواجها من رجل آخر وتختلف مع الشيخ الذي يخبرها أن ما يمنع ذلك وجود آراء فقهاء متعددة وتخبره بأنها تريد نصاً من- كتاب ربنا- علی حد تعبيرها وليس من كلام رجال الدين.
ينبع الضجيج من مشاهد كهذه يتم تصديرها على مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبة بتعليقات ساخرة، كتلك التي تقول إننا من الواجب أن نتبع قوانين "فيفا" لتنظيم حياتنا كي يرضى إبراهيم عيسى وأبطال المسلسل.
إشكالية نقد الخطاب الديني قائمة منذ سنوات طويلة وهي قائمة على أساس إمكانية تحويل مصر من دولة تستند إلی الدين الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع إلى دولة مدنية.
يمكن أن تستند أي قضية مطروحة للعامة على الدين، القانون، أو الموروث الشعبي المجتمعي وما يتم التعامل به باعتباره دستوراً خاصاً لا يقبل الشك. في المسلسل نجد أن المرأة تتعرض للظلم من خلال الجهات الثلاث.
في الحلقة الثالثة تحاول فاتن إيجاد غرفة في أي فندق بعدما لم تعد تمتلك أي سكن لها ولأولادها، تذهب لأكثر من فندق ولا تحصل على غرفة، لأنه لا يوجد فندق يمكنه أن يقبل ببيات امرأة بمفردها بحسب قول عمال الاستقبال، وحينما تسأل فاتن أحد العمال هل هذا نص قانوني يجيبها: "والله مانا عارف، بس طالما بينفذوه يبقی قانون".
لذا تحاول فاتن في كل مرة أن توجِّه نقدها وتُلقي مسؤولية الظلم الواقع عليها علی الجهات الثلاث، وإذا كانت محاولاتها في رفع دعوى علی قانون الأحوال الشخصية محاولة للثأر من قانون ظالم فإن حواراتها في المسلسل مع رجال الدين محاولة أخری لرفض وجود تشريع سماوي يتسبب في تعذيب المرأة لمجرد أنها مُطلقة!
إبراهيم عيسى.. ضجة في كل خطوة
الجدل الذي صاحب "فاتن أمل حربي" فور ظهوره جاء أولاً بسبب وجود اسم الكاتب الكبير "إبراهيم عيسى" ككاتب للمسلسل. يتخوف الناس من كل إنتاج إبراهيم باعتباره يدّس السم في العسل، بالرغم من أن نفس فئات أخرى ذات آراء قد تتفق مع إبراهيم عيسى تنتقد أعماله لأنها شديدة المباشرة وبشكل ساذج!
يخاف الناس من كل ما يقوله أبطاله ويتهمونهم بالمباشرة والسذاجة وفي أحيانٍ كثيرة بالكفر ونشر الإساءة للإسلام، هكذا يهاجم الناس منتج إبراهيم عيسی في أي سياق دون الحاجة للبحث والتمحيص، وبلا أي رغبة في إعمال العقل والتواصل مع منتجه الفكري الذي يكون في أغلب الأحيان أعلى من منتجه الفني.
يستخدم إبراهيم عيسى أي وسيلة لتوصيل أفكاره التي يؤمن بها، ويمكن تناول منتجه الأدبي، الفني، وظهوره الإعلامي على قنوات التلفزيون باعتبارها كلها محاولات تلاحم مع أفكار دوجمائية صلبة راسخة في وجدان المصريين عن الدين ورجاله الذين- وكما يری عيسى دوماً- السبب في تراجع الوعي الجمعي للمصريين وأحد أهم عوامل تأخر الدولة المصرية عن الدول الأخرى، وسبب تعجيزها عن التحول لدولة مدنية كاملة تقوم على المساواة بين جميع أطياف المجتمع.
شريف سلامة.. العائد من النوم الطويل
على الجانب الآخر فإن الدور الذي يقوم به الفنان "شريف سلامة" زوج فاتن يبرز حقيقة أخرى. يُمثل "سيف الدندراوي" بشكل مباشر دور الرجل الشرير، الذكوري الذي يريد إخضاع طليقته وعودتها راكعة نادمة بسبب رغبتها في الطلاق ليتم عتقها من جلسات المحاكم وأقسام الشرطة ومحاولاتها الدؤوبة في الحصول على أدنى حقوقها.
من الصعب تذكر دور فني واحد لشريف سلامة بالرغم من أن مسيرته الفنية بدأت منذ ما يزيد عن 15 سنة. يبدو دور سيف الدندراوي كبعث جديد لفنان عجز أغلب من تعاونوا معه على إبراز موهبته الفنية الكبيرة.
ومن خلال لغة الجسد التي تُبرزه بجانب نيللي كريم بصورة أضخم ومن خلال نظرات العين المتبلدة والأفعال غير المتوقعة التي تتسم بالندالة ينجح شريف سلامة في استفزاز الناس ودفعهم لكرهه بشدة لتمثيله دور رجل غير شريف، يتصارع مع طليقته بقسوة رغبة في إذلالها فقط لإرضاء رغبته كرجل لا يمكن رفضه.
وبالرغم من اكتمال صورة الرجل الشرير الذي يصارع الخير المتمثل في نيللي كريم كامرأة ترغب في الحفاظ على حياة بناتها وحياتها فإن ما يُقدمه شريف سلامة ليس هو كل شيء لتجسيد الشر والقسوة التي من الممكن أن يبرزها الرجل تجاه زوجته أو طليقته. في المجتمع المصري لا تحتاج لإجراء إحصائيات لمعرفة عدد قضايا الطلاق والخلع المرفوعة لخلاص امرأة من رجل قاسٍ، يكفي تصفح مواقع التواصل وشبكات الأخبار لتجد حادثة كل يوم، وهذا ما يطفو على السطح فقط، ولكن في القاع تجد مئات الجرائم كل يوم من رجال لا يعرفون عن الدين سوی اعتبار ضرب المرأة حلالاً وأن الشرع يُحلل أربعاً!
تتعرض النساء للإساءة تقريباً من كل رجل في حياتها، ويمكن اعتبار الزوج/الطليق في حياة بعض النساء كابوساً حقيقياً لا يتوقف عن التلويح بإمكانية إلحاق الأذی الجسدي/المعنوي بأكثر من طريقة وبلا رادع حقيقي فقط لاعتبار المرأة جزءاً من ممتلكاته أو- الست بتاعته هو بس- على حد تعبير سيف الدندراوي.
لذا وبالرغم من وجود العديد من النماذج الجيدة للرجال في المسلسل فإنك لن تجد أحاديث كثيرة عنهم إلا من نساء تدعو لوجود رجل داعم في حياتها بنفس الصورة، على الجانب الآخر فإنك ستجد المئات من النماذج التي يُحاكيها سيف الدندراوي وبصور أكثر قسوة.
نيللي كريم.. سنوات من الأحمال الثقيلة
يُشكل "فاتن أمل حربي" منعطفاً هاماً في المسيرة الفنية لنيللي كريم، بالرغم من تاريخها الطويل الذي صنعته من خلال عدة أعمال درامية هامة خلال السنوات الماضية ولكن مسلسل هذا العام يُعد أحد أهم وأبرز أعمالها. في كل عام يتخوف الناس من متابعة مسلسلات نيللي باعتبارها تحتوي على جرعات عالية من الكآبة، وبالرغم من ذلك فإن نيللي كريم حتى الآن لا تخشى الوقوع في فخ التكرار أو إصابة المشاهد بالملل لإيمانها الخاص بتفرد كل شخصية تقوم بها واقتناعها بموهبتها الكبيرة التي تشحذها كل عام لتجسيد امرأة مختلفة عن الدور الذي سبق تأديته أو الدور التالي.
لا يمكن الخلط بين شخصيات عوالم نيللي كريم، كل شخصية لها نبرة صوت مختلفة، نظرات وطبقات صوت على حسب الانفعال، كل شخصية هي جسد خاص تخلعه نيللي بعد انتهاء التصوير. في فاتن أمل حربي تتمكن نيللي من استحضار روح وشخصية امرأة تقاوم القهر، امرأة ضعيفة ولكنها ترفض الاستسلام، تُصاب بالتعب والإحباط واليأس ولكنها كأي أم تحاول الحفاظ على بناتها باعتبارهن امتداداً مادياً حقيقياً لها.
المرأة والموروث الشعبي
منذ عدة سنوات انتشرت مفاهيم خاطئة حول الهدف من المساواة بين الرجل والمرأة باعتبار أن المرأة العربية في الأساس تحصل على كافة حقوقها دون الحاجة إلی دعوات المساواة هذه، ولكن الواقع المعيش والذي ليس من الصعب التعرف عليه يخبرنا أن العديد من النساء تم قهرهن نتيجة سلطة الرجل على العالم باستخدام النصوص الدينية أو بالاستناد للموروث الشعبي باعتبار المرأة ناقصة عقل ودين واعتبار الرجل نصف إله. في مجتمعات ما زالت تعاني من أفكار لا يجب الاقتراب منها خطيئة المرأة تمسها وتمس كل أفراد عائلتها من الدرجة الأولى وحتى آخر الدرجات، بينما خطيئة الرجل من الممكن أن لا تمسه هو بمجرد أن يقرر التوبة ويعلنها أمام الجميع، وكأن التوبة محصورة للرجال فقط.
ما زال يتم التعامل مع المرأة باعتبارها جزءاً من ملحقات الرجل وملكية لكل الرجال في عائلتها، وبسبب ما نتوارثه من أفكار خاطئة من الممكن أن تساهم النساء أيضاً في نشر هذه الأفكار باعتبارها حقيقة من حقائق الكون. ما زالت النساء تحاول أن تحافظ على حياة زوجية قاسية من أجل الأطفال، أو لأن ظل رجل أفضل من ظل حائط وغيرها من الأمثلة، وما زالت النصوص الدينية تحتفظ بقدسيتها في الأجزاء التي تتعلق بالسيطرة على المرأة وإحكام القبضة عليها، بالرغم من أننا نعيش في عصر من المفترض أن يتساوى فيه الجميع بلا أي تمييز أمام القانون وليس أمام النص الديني الذي يتوجب تطبيقه إيمان كل أفراد المجتمع الواحد به بلا تعديل أو نقد، فقط لأن الإيمان قد يتوجب علينا قبول ما لم نحط به علماً.
يأتي كل فترة مسلسل أو فيلم، أو عمل روائي أو مقال أو حادثة لتثير نفس الضجيج في مجتمع مغلق، لإحداث أي تغيير مهما بدا بسيطاً لتغيير أو تحطيم ما يجب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.