لا أقصد من هذا المقال، بأي شكل من الأشكال، الإشارة إلى أن رمضان أفضل حالاً داخل السجن، ولكن هنالك إحساس ما تمكن من الولوج إلى وجداني بينما أنا معتقل.
المظاهر الرمضانية من مشاهدة زينة رمضان، والجلوس على مائدة واحدة لتناول وجبة الإفطار، وقراءة السجناء للقراَن الكريم، وصلاة التراويح، وإعداد السحور، كل ذلك كان باعثاً لشعورٍ من الطمأنينة والدفء بداخلي.
تختلف الظروف المعيشية من سجن إلى سجن، وعليه تختلف الصورة من مكان إلى آخر. فهناك سجن يُمنع فيه التريض، وسجن تمنع فيه الزيارة، وسجن اَخر تمنع فيه الزيارة والتريض، وسجن آخر متاح فيه التريض والزيارة.
أول يوم رمضان
حين فُتح باب الزنزانة للتريُّض فى تمام الساعة الثامنة، بدأ بعض السجناء في الخروج ومقابلة بعضهم وتبادل التهاني بحلول الشهر الفضيل. وعلى الفور بدأ السجناء المسؤولون عن تنظيم الدورات الرمضانية في كرة القدم والشطرنج وكرة الطاولة في تجميع الفرق لبدء الدورات المختلفة.
في كرة القدم يتكون الفريق من خمسة سُجناء يتم تشكيلهم سواء من أعضاء الزنزانة الواحدة أو من خلال مجموعة مختلطة من سجناء مجموعة من الزنازين، ويكون الحكم في بعض الحالات هو السجين المسؤول عن تنظيم الدورة.
ولكن في بعض الحالات شاهدت ما أثار اهتمامي وهو رفض بعض السجناء أصحاب التوجه المتشدد، الاحتكام إلى قوانين كرة القدم، ناهيك عن رفضهم تواجد حكم للمباريات بين الفرق، وهذا التشدد هو ما يؤدي إلى الانفصال والشجار في العنابر المُختلطة (تلك التي تضم بين جدرانها معتقلين سياسيين من مختلف الأطياف). في النهاية، تم تنظيم دورة لكرة القدم فيما بين السُجناء المتطرفين وبعضهم، ودورة أخرى تشمل باقي السُجناء.
كذلك، كنت أرى بعض المقارئ داخل الزنازين، حيث يتحلّق مجموعة من السجناء ممن يحفظون القراَن الكريم ويسعون إلى الحصول على إجازة في حفظ وتلاوة القراَن حول شيخ سجين خاتم للقراَن وحاصل على إجازة بالقراءات العشر.
وكان بعض السجناء يتجاذبون أطراف الحديث حول ذكرياتهم عن رمضان خارج السجن وسط أهاليهم وأحبابهم، وعن عاداتهم في هذا الشهر، وأداء صلاة التراويح في الجامع الأزهر وبعض المساجد الشهيرة الأخرى.
كنت أشاركهم أحلامهم وأمانيهم بالخروج إلى الحُرية. في مثل هذه اللحظات، كنت أكتشف الجوانب العاطفية للسُّجناء، حيث الحنين إلى الشمس والأهل والأم والزوجة والابنة والابن.
كان هناك من يدعو الله إلى الخروج لرؤية زوجته وطفله الذي تركه رضيعاً، وهناك من يتمنى الخروج لرؤية والديه المُسنين ويخشى من فكرة تواجده داخل السجن أثناء رحيلهما عن الدنيا.
كان هناك بعض السُّجناء ممن لا يصومون، بعضهم كان يقوم بالتدخين سراً، والبعض الاَخر علانية، وكان يؤدي ذلك إلى بعض المُشاحنات بين السُجناء، وكان يتدخل العقلاء حتى لا تتصاعد الأزمة ويتم حل الأمور بيننا دون تدخل الحراس أو مباحث السجن.
طُلب مني التدخل في بعض الأحيان، وكنت أقترح أن كل شخص لديه مساحته الشخصية في التصرف، وعلى كل سجين أن يحترم السجين الآخر، فعلى الشخص الصائم احترام رغبة غير الصائم، وعلى الشخص غير الصائم أن لا يضُر الصائم بالتدخين، وعليه تم اقتراح مؤقتاً أن يتجمع السجناء غير الصائمين أو المُدخنين في زنازين أخرى بالعنبر لحين انتهاء شهر رمضان.
وفي أثناء فترة التريض ذهبت إلى بعض السجناء ممن يقومون بصنع وبيع الهدايا التذكارية إلى السجناء الآخرين مثل فوانيس رمضان ومجسمات للكعبة والمساجد المصنوعة يدوياً من بعض خامات الكرتون وأعواد خشب البامبو، والسبح المصنوعة من الخرز، وباقات الورد المصنوعة من ورق الكروشيه، الذين يقدمونها بدورهم كهدايا إلى أحبابهم أثناء مقابلتهم الدورية في الزيارات الأهلية. قُمت بشراء فانوس رمضان وباقة من الورد وسبحة خرز لتقديمها لوالدتي وأُخْتَيَّ أثناء الزيارة.
يوم الزيارة
حين قام مُسيّر العنبر- وهو سجين يقوم بمجموعة من المهام الخاصة بالعنبر مثل تسلم كشف زيارات الأهالي وتبليغ السجناء بالزيارة وتسيير أمور العنبر والسجناء، ويتم تعيينه من قبل إدارة السجن متمثلة في أغلب الأحيان من رئيس المباحث- بالنداء على أسماء السجناء لإبلاغهم بوجودهم في كشف الزيارات، ذهب السجناء إلى زنازينهم لارتداء السُّترة الميري البيضاء الخاصة بملابس سجن التحقيق.
وفي هذه اللحظات الخاصة بالزيارة، يُحاول السجين أن يبدو بمظهرٍ حسن حين يقابل أهله، ويحاول جاهداً أن يقوم بكي السُّترة الرديئة بعد غسلها، ثم طيها، ووضعها أسفل مهجعه "الفرشة" حتى يتم كيها وحفظها لحين موعد الزيارة. وحينذاك يقوم السجين بارتداء سُترته، ويُهندم شعره، ويتعطر مما لديه من العطر أو المسك أو يقدم له سجين آخر بعض المسك، ثم يحمل هديته، ويتسلم بعض الجوابات من بعض السجناء ليقدمها لأهله لإبلاغ رسائل السجناء إلى أهاليهم.
ثم يتجه السجين للخروج في طابور الزيارة، حيث يصطف السُّجناء أمام باب العنبر استعداداً للذهاب إلى باب الزيارة القريب من مبنى الإدارة، ويقدم لهم باقي السجناء أمنياتهم بأن تكون الزيارة خفيفة وسعيدة. كُنتُ قد قمت بإعطاء رسالة إلى صديق ذاهب لمقابلة أهله في الزيارة ليقوموا بإيصالها إلى أهلي، مُقترحاً موعداً لهم للقيام بزيارتي.
تحرك السُّجناء إلى خارج العنبر متوجهين نحو قاعة الزيارة، وكل سجين يحمل معه هديته الخاصة لتقديمها لأهله، منهم من قام بشراء هدية، ومنهم من قام بصُنع هديته. فهذا سجين يحمل فانوساً لابنته، واَخر يحمل كعبةً لوالدته، واَخر يحمل بوكيهاً من الورد لزوجته.
وبعد خروج السُّجناء للزيارة ينتهي وقت التريض، ويبدأ حراس العنبر في مطالبة السُّجناء بالدخول إلى زنازينهم وغلق الأبواب الحديدية لكل زنزانة انتظاراً لرجوع باقي السُّجناء من زيارة الأهالي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.