مافيا الدواء وجشع بعض الأطباء.. كيف تقتلنا شركات الأدوية من أجل الربح؟

عدد القراءات
845
عربي بوست
تم النشر: 2022/04/07 الساعة 11:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/07 الساعة 11:09 بتوقيت غرينتش

من الأمور التي تبعث على الأسى أن يتحول علاج المريض إلى صفقات عالمية يتربح من ورائها ذوو النفوذ، فتدرّ في خزائنهم المليارات التي تقتطع من أجساد الفقراء الذين أنهكهم المرض وهدّتهم الحاجة، وأخطر من ذلك ألا يقتصر الأمر على غلاء الأدوية فقط، بل يتعدى إلى الغش في مكوناتها، فيكون الضرر على الفقير ضررين: المال، والدواء المغشوش.

يعاني الناس في كثير من بقاع الأرض من تردي النظام الصحي الذي يشهد اختلالات كبيرة، وتتعدد جوانب آفة الفساد في القطاع الصحي، في ظل فساد أولياء أمور المستشفيات وأطباء يحترفون السلب المنظم وفق "عقد شركة منظم" مع صيادلة وأصحاب مخابر صحية، إضافة إلى اللوبي المتحكم في قطاع الصحة والمتكوّن من لوبي الأدوية والتجهيزات الطبية، اللذين يحكمان قبضتهما على توجّه هذا القطاع وأسعاره.

وبرزت هذه الظاهرة بقوة في إطار هيمنة جائحة كورونا وعجرفتها التي ألقت بظلالها الوبائية المتفردة على عالم النصب والاحتيال والمافيا والتهريب في العالم، لتتمثل في استغلال حاجة الناس، وتحفر لنفسها اسماً كبيراً في عالم الجريمة، وتتصدر عناوين مثل "سقوط مافيا الكمامات"، "إلقاء القبض على عصابة تدوير النفايات"، "تجار الآلام صنعوا الملايين من احتكار أدوات التعقيم"، "مصانع لصناعة الكمامات المميتة"، "بلطجية الدواء يتاجرون بآمال المصابين بكورونا"، "أطباء يبيعون الوهم في وصفة علاج كورونا"، مع قائمة كثيرة ومتنوعة تطول، من المستجدات الطبية والوقائية والصحية في عالم الجريمة والنصب والاحتيال.

ينتهج مُصَنّعو الأدوية نفس أسلوب صانعي الحروب في تسويق الأسلحة بهدف بيع وتسويق أكبر كمية ممكنة من الأدوية لتُدرّ أرباحاً فلكية، ومصادر النصب والاحتيال تنضح بها ملفات الدول وحكايات الناس وتجاربهم اليومية، وما حدث من اجتياح فيروس "كورونا" العالم حقق لمافيا صناعة الدواء العالمية مليارات الدولارات، ومازال، حيث يستنزف البحث عن العلاج أموال الدول أكثر من نفقات الحروب.

شركات أدوية تعطي إغراءات كبيرة لتمرير علاجات معينة

مافيا شركات الدواء

وعند دخولنا إلى بعض عيادات الأطباء كنا نتساءل عن سبب وجود مندوبي الأدوية عند باب عيادة الدكتور بشكل مستمر، خاصة إذا كان هذا الطبيب مشهوراً أو يعمل في مستشفى ذائع الصيت!

وللوهلة الأولى تظن أن المسألة لا تتعدى مجرد تعريف بمستجدات الأدوية وأنواعها وطريقة التعامل معها فقط، ولكن كما يقال (وراء الأكمة ما وراءها)، فمندوبو تلك الشركات يهدفون من خلال هذا التواجد لتصريف جميع أنواع الأدوية، على حساب المرضى وإيهامهم عن طريق الطبيب المعالج بأن هذا الدواء هو الأنسب والأصلح من غيره.

والمريض لن يشك ولو لحظة في صحة كلام "الطبيب" بحكم الثقة أولاً وقسم الأطباء ثانياً الذي يؤدونه عند التخرج، لأن مهنتهم لا مكان فيها للتلاعب أو التضحية بصحة الناس، كما أن العامل الإنساني يُحتم على الطبيب عدم اللجوء لهذا النوع من الاحتيال المتعلق بصحة وسلامة الناس.

والسبب هو الإغراءات التي تدفعها شركات الأدوية لهذا النوع من ضعاف النفوس، الذين باعوا ضمائرهم من أجل المال ولم يردعهم وازع ديني أو إنساني عن ارتكاب جرائمهم، ولو وقف الأمر عند حد السكوت لاعتبرناه جريمة لا تليق بمن يمارس أشرف مهنة وأقسم قسمها، ولكن فما بالك وهو ينصح بنوعية معينة من الأدوية لا تتوافق ربما مع صحة المريض، أو يوجد ما هو أفضل منها وينصح بدواء معين، لأن وكيله يعطي مكافآت وتذاكر سفر وغيره لبعض ضعاف النفوس من أشباه الأطباء، وما أكثرهم.

وهكذا يسير المريض تحت حكم عصابة تسرقه وتستغل حاجته وجهله وتتاجر بمرضه، فالصيادلة لا يقلون خطورة في هذا الموضوع عن الأطباء، حيث يعطون النصائح التي تخدم شركات معينة سواء فيما يتعلق بالأدوية أو الكريمات وأصباغ الشعر، كما أنهم يحرصون على تصريف المنتجات مرتفعة الثمن لترتفع النسبة التي يحصلون عليها. وأضف إلى هذه السلسلة المشافي وعيادات التحاليل الطبية والصور الشعاعية.

وتشير تقارير رقابية للمجتمع المدني إلى أن "مافيا" الأدوية تمثل دولة داخل الدولة! فقد حذرت نقابة الصيادلة في إحدى الدول العربية، في بيان لها في وقت سابق، من وجود ما سمّته "مافيا لتجارة الأدوية المغشوشة منتهية الصلاحية والمعاد تدويرها"، حيث تبيعها للمواطنين عبر بعض التطبيقات والمواقع الإلكترونية وبعض عيادات الأطباء، وهو ما يمثل خطراً شديداً على صحة المواطنين الذين يستغلهم هؤلاء التجار بتخفيضات على تلك الأدوية.

إمبراطوريات الطعام والدواء: هل تقتلنا من أجل الربح؟

مافيا شركات الدواء

في الماضي كانت قيمة الابتكار الدوائي هي شفاء المريض، أما الآن فقد أصبح العائد المادي، لذلك خاضت الشركات الدوائية العالمية مجتمعة حرباً قضائية ضد حكومة جنوب إفريقيا لمنعها من توفير أدوية الإيدز لمواطنيها بأسعار مناسبة، من خلال الترخيص بإنتاجها محلياً، الأمر الذي استنفر الرأي العام العالمي، ما دفع هذه الشركات إلى سَحب دعواها (2001).

لقد تغولت مافيا الدواء وأحكمت قبضتها على مفاصل البحث العلمي الكبرى، وهو ما أكدته مارسيا أنجل، رئيسة تحرير "مجلة نيو إنجلند الطبية" (NEJM) العريقة، حيث قالت: لم يعد بالإمكان تصديق كثير من البحوث السريرية المنشورة، أو الاعتماد على حُكم الأطباء الموثوق بهم أو الإرشادات الطبية الرسمية.

ويشاركها الرأي ريتشارد هورتون، الأستاذ الجامعي البريطاني، ورئيس تحرير مجلة "ذا لانسيت" الطبية الشهيرة قائلاً: في عالم مافيا الدواء هناك تضارُب فَج في المصالح، بل إنه في عام 2018 عقد البرلمان الأوروبي جلسة استمرت ساعتين، تحت عنوان "إمبراطوريات الطعام والدواء: هل تقتلنا من أجل الربح؟!". شارك فيها عدد من المتخصصين، مثل "أسيم مالهوترا"، طبيب القلب الشهير.

وأكد المؤتمر عدداً من التبعات الكارثية لتغوُّل إمبراطوريات الطعام والدواء، منها تضارُب المصالح البشع الذي أضَر أشد الضرر بـ"الطب المسند بالدليل" وأثره المدمر على الصحة العامة.

وتحقق مافيا صناعة الدواء سنوياً عوائد تعدت حاجز التريليون دولار، دون أي اعتبار لضوابط أخلاقية يتصور حضورها في الصناعة الأكثر مصيرية في حياة الإنسان.

وتسيطر الشركات العالمية على معظم أسواق الأدوية في العالم الثالث، سواء عن طريق التصدير المباشر أو احتكار مواد التصنيع الأولية، كما يعد استغلال المواد الخام للدول النامية هو أساس عمل مافيا الدواء في العالم، ففي كينيا وحدها نباتات طبية تفوق ما يوجد في أوروبا وأمريكا، ويحتكر استخدامها شركات من أوروبا وأمريكا.

ومن بين 12 ألف شركة دواء حول العالم تحتكر 25 شركة فقط نصف صناعة الدواء العالمية، وهي شركات أوروبية أو أمريكية، وتمتلك شركات مثل "جلاكسو سميث" البريطانية و"نوفارتس" السويسرية و"سانوفي" الفرنسية الحصة الأكبر في سوق الدواء عالمياً، في حين تُعد بلدان العالم النامي المستهلك الأول للعقاقير.

صناعة الرعب وبيع الوهم

مافيا شركات الدواء

تتعمد بعض الشركات العالمية للأدوية إثارة الرعب من خلال تسويق أمراض قديمة على أنها جديدة تشكل خطراً على حياة الإنسان؛ ومن ثم تبيع أكثر أدويتها القديمة في حلة جديدة، والأمثلة كثيرة على ذلك، فهناك شركات عالمية مختصة في "التوجيه للمرض" عبر آلتها الإعلامية الضخمة، بترويج معلومة طبية خاطئة مبنية على "حقيقة وهمية"، وهو ما يثير الرعب ويسهل عملية الإقبال على شراء دواء معين.

ويشير خبراء إلى أن هذا حدث بالفعل مع مرض "H1N1″، الذي تبين فيما بعد أنه مرض مثل جميع الأمراض لا يستحق الهالة الإعلامية التي واكبته حينها، وكما وقع في لقاح فيروس الالتهاب الكبدي من نوع "ب".

ويشير خبراء إلى أن سلطة شركات الأدوية العملاقة باتت أكبر من سلطة الحكومات، ففي الوقت الذي يشكو المواطن من قدرة شرائية ضعيفة، في وقت تبالغ فيه تلك الشركات في أسعار منتجاتها لتغطية مصاريف "الأبحاث" والدعاية وعمولات الموزعين، وتتنافس الشركات الغربية على احتكار الخامات الدوائية رغم أن الكثير من عناصر الأدوية المشهورة هي في أساسها عناصر محلية درست ووثقت ثم أعيدت لأصحابها في أغلفة أنيقة.

كما أن عدداً من مبتكري الأدوية يعملون بجد لإيجاد حلول لأمراض مستعصية، لكن القوانين لا تنصفهم، إذ عليهم دفع مبالغ كبيرة جداً من أجل الحصول على براءة الاختراع، ولا يمكنهم الاستفادة من ذلك إلا عشر سنوات، بعدها يمكن لأي شركة أن تبحث في مكوناته وتنتج مثله وتبيعه، وبحسب خبراء، فإن الأمر تتدخل فيه "لوبيات" عبر سن قوانين تحت مظلة مؤسسات عالمية، تلزم جميع الدول بها.

الصحة حق للإنسان وأطباء تنعقد عليهم الآمال

إن الحق في الصحة حق ملازم للحق في الحياة إلا أننا نجد أن هذا الحق مسلوب في كثير من الأحيان، والفقراء ليس لهم مكان على الخارطة العلاجية في كثير من البلدان النامية، والبنية التحتية والإمكانات والاستعدادات في كثير من المستشفيات الحكومية سيئة جداً، وفي تدهور مستمر، ومن سيئ لأسوأ، بالإضافة إلى عدم قدرتها على استيعاب كل المرضى وتوفير الأدوية.

وكم من حالة لجأت للمستشفيات كأمل أخير في الحياة وتم إلقاؤها في الشارع بسبب ارتفاع المصاريف التي لا يملكها الفقير، وإنك لو تصفحت وجوه الناس لوجدتها تقص عليك كثيراً من الأحزان التي رأتها عيونهم في عيادات الأطباء وعلى عتبات المستشفيات.

الفقراء هم الذين يقع عليهم العبء الأكبر في هذه المآسي، خاصة أنهم غالبية شعوب العالم الثالث ينهشها الفقر، غير قادرة على العلاج داخل المستشفيات الخاصة، في ظل أزمة اقتصادية جديدة تشهدها البشرية مع نذر حرب عالمية تشتعل نيرانها في أوكرانيا.

وإننا إذا دخلنا بيوت الناس لوجدناها مليئة بالأحزان، تغص قلوبهم بما اكتوت من نيران الطمع والسلب المنظم الذي يعيشه جانب كبير من قطاع الصحة في بلادنا.

يسير المريض في "درب الآلام" زمناً، يعاني من جهل الطبيب، ويعيش حياة "المساكين" يكابد المشقة أياماً وشهوراً، باحثاً عمن يداويه، ويتناسى طبيبنا ما أقسم عليه يوم تخرجه من الجامعة "وأقصد بقدر طاقتي منفعة المرضى عما يضرهم أو يسيء إليهم، وألا أعطي دواءً قتّالاً أو أشير به".

لا يشمل هذا الكلام كل الأطباء والصيادلة والمَخبريين والمشافي والعاملين في القطاع الصحي بكل حال، فإنك لن تعدم أهل الرشاد منهم في كل مكان وزمان، وعلى هؤلاء يقع العبء الأكبر لأنهم بصيص الأمل في عتمة الليل، وقد صار الطبيب الخبير الشريف كالبدر في دياجير الظلمات.

ولهذا كله يجب علينا أن نتداعى جميعاً لنصرة المريض ولإنصاف أنفسنا تجاه هذا الجشع المخيف الذي لا يردعه إلا القوانين الحاسمة والعقوبات الحازمة لتردع كل لص يمتهن الطب فيشوه المهنة الشريفة ويضر بصحة الناس، وأن تنعقد الندوات والورشات للتعريف بالأدواء والأدوية والتحذير من شبكات الإجرام التي تتاجر بآلام الناس وأوجاعهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عماد الدين فارس
كاتب سوري، ماجيستير في الأدب العربي
كاتب سوري، ماجيستير في الأدب العربي
تحميل المزيد