لا أُظنك تفكر كثيراً عندما تتخلص من جهاز تالف بالقرب من حاوية نفايات في نهاية الشارع، فالتخلص منه بهذه الطريقة أسهل بكثير من الطواف على ورش التصليح، أو استدعاء الفنيين الذين ربما يفشلون في إعادته للعمل كما كان سابقاً، ولا أظنك تقع تحت وطأة تأنيب الضمير إذا لاقى هاتفك النقال ذو الإصدار القديم المصير ذاته، ولكن تصوَّر معي الكمّ الكبير للأجهزة التالفة، بما فيها المواتير الكبيرة مثل مواتير السيارات وغيرها، التي تنتجها محافظة بأكملها من محافظات الضفة على سبيل المثال! وتصوَّر أيضاً الكارثة البيئية (التي سنستعرض معالمها في هذا التقرير)، والتي تنتج عن دخول كميات إضافية من نفايات إلكترونية تُلقي بها تجمعات سكنية كبيرة ومتعددة، ومناطق صناعية تتنوع منتجاتها بشكل كبير وواسع مثل دولة الاحتلال.
كيف تتخلص إسرائيل من نفاياتها الإلكترونية؟
يشير مصطلح النفايات الإلكترونية (E-waste) إلى مختلف المعدات والأجهزة الإلكترونية الموصولة بمآخذ للتيار الكهربائي، أو تحتوي داخلها على لوحة دوائر أو رقائق، وتكون قد وصلت أو قاربت الوصول إلى نهاية عمرها الافتراضي، مثل أجهزة الكمبيوتر وشاشات التلفزيون وآلات التصوير والهواتف النقالة والأجهزة المنزلية، كالثلاجات والغسالات وغيرها.
يعرِّف "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" الخردة التي تدخل المناطق الفلسطينية بأنها "أجهزة إلكترونية، ومخلفات صناعية وعسكرية، وبقايا محركات وماكينات، يجلبها سماسرة إسرائيليون وفلسطينيون من إسرائيل إلى المناطق الفلسطينية، فيحرقها عمال فلسطينيون مقابل أجر زهيد لاستخلاص المعادن، ومن ثم تعود مفروزة ونظيفة إلى حيث أتت".
تعدُّ دولة الاحتلال المصدر الأول للخردة في الضفة الغربية، والتي يصل أغلبها بطرق غير قانونية، ما جعل بعض مناطق الضفة مكبَّاً للنفايات الإسرائيلية، بما فيها الخطرة. وتشير التقارير الصادرة عن المؤسسات التابعة للأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، والباحثين الأكاديميين، وأفراد المجتمع، وسلطة جودة البيئة الفلسطينية، إلى استمرار نقل النفايات الخطرة من داخل إسرائيل ومن مستوطناتها الصناعية غير القانونية، التي تعمل في الأراضي الفلسطينية، إلى الضفة الغربية.
وتقوم تجارة الخردة في الضفة الغربية على تفكيك الأجهزة الإلكترونية والكهربائية والمواتير والكابلات وأي منتجات أخرى مستهلكة أو تالفة تحوي بطارية أو تستخدم قابساً كهربائياً؛ لاستخراج المعادن الموجودة داخلها، وتخلِّف النفايات الإلكترونية وراءها مواد سامة ومعادن تتباين أثمانها كالحديد والنحاس والألومنيوم والبلاتين، ويمكن أن تصل إلى الذهب والفضة، تتخلص دولة الاحتلال من نفاياتها مقابل فتات من المال يقبضه التجَّار الفلسطينيون، وتخلِّف لمجتمعهم أمراضاً قاتلة على رأسها السرطانات والتشوهات الخلقية والربو وغيرها، إثر تكديسها وحرقها أو دفنها، وتحتوي الإلكترونيات المتطورة على 60 عنصراً كيميائياً، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
المهندس ثابت يوسف، مدير سلطة جودة البيئة/ قلقيلية، في مقابلة هاتفية مع مجلة آفاق البيئة والتنمية، أشار إلى أن 80-90% من النفايات الإلكترونية في الضفة الغربية مصدرها دولة الاحتلال، حيث تدخل النفايات لمناطق الضفة بطرق غير قانونية، رغم عدم وجود قانون واضح يُجرّم هذا العمل في السلطة الفلسطينية، بسبب اصطدام ذلك بقضية إغلاق أحد مصادر الدخل للفلسطينيين. وذكر ثابت أيضاً أن تجَّار الخردة يُدخلون أجهزة إلكترونية كثيرة من المناطق الإسرائيلية، إلى المناطق الفلسطينية لبيعها في سوق المستعمل، ولكن غالبية هذه الأجهزة تكون معطلة تماماً، وحتى تلك التي تصلح للاستعمال فإن عمرها يكون قصيراً، حيث تصبح نفايات إلكترونية مصيرها مكبات النفايات.
تقرير لمنظمة بتسيلم بعنوان "صنع في البلاد" أشار إلى أن إسرائيل تستغل مكانتها كدولة احتلال، لوضع تعليمات أقل تشدداً للحفاظ على البيئة، في المناطق الصناعية الواقعة ضمن المستوطنات المقامة في الأراضي المحتلة، بل وتعرض محفِّزات اقتصادية كامتيازات ضريبية ودعم حكومي لتلك المناطق، ما أدى إلى إنشاء ما لا يقل عن 15 منشأة في الضفة الغربية، تعمل على معالجة النفايات المُنتجة داخل إسرائيل، ستّ منها تعمل على معالجة النفايات الخطرة، التي تستوجب معالجة وترتيبات خاصة، من ضمنها معالجة بطاريات مستعملة ومواد ناتجة عن صناعة الإلكترونيات.
وتنتج إسرائيل حوالي 130 ألف طن من الخردة الإلكترونية سنوياً، بحسب التقديرات الرسمية. يُهرَّب جزء كبير منها إلى الضفة الغربية، ليُعاد بيعها أو استخلاص المعادن من داخلها. وبحسب المرجع ذاته، فإن المدير العام السابق لوزارة حماية البيئة، يسرائيل دانزيغر، قال: "إن التخلص من طن من الخردة الإلكترونية أو غيرها من النفايات يمكن أن يكون أرخص بمئات الشواكل في السلطة الفلسطينية منه في إسرائيل، هناك حافز اقتصادي قوي للغاية هنا".
تقرير آخر لبتسيلم أشار إلى أن منشآت معالجة النفايات الخطرة المقامة على أراضي الضفة الغربية تعمل دون قيود، ولا يُطلب منها تقديم تقارير عن كميات النفايات المعالجة فيها، أو الأخطار الناجمة عن عملها، أو طرق تفادي هذه الأخطار أو على الأقل تقليصها. الأمر الذي يزيد من احتمالات وقوع مخاطر بيئية وصحية. ظاهرياً يبدو أنها تقوم بمعالجة كميات أكبر من النفايات، لكنها في الوقت نفسه تنقل الأخطار والملوثات إلى البيئة الفلسطينية والسكان الذين يعيشون فيها.
وجه الخطورة الذي تحمله النفايات الإلكترونية
حذَّر تقرير لمنظمة الصحة العالمية من أن صحة الأطفال والمراهقين والأمهات الحوامل في جميع أنحاء العالم معرضة للخطر جراء المعالجة غير القانونية للنفايات الإلكترونية، وتعتبر الإدارة غير السليمة لهذا النوع من النفايات قضية متنامية في كثير من بلدان العالم.
وللمخلفات الإلكترونية خصائص رئيسية تفسر وجود احتمالية كبيرة للتلوث عند معالجتها بطريقة غير بيئية، وهذه الخصائص هي:
1- عدم تجانسها: حيث تحتوي النفايات الإلكترونية المختلفة على مواد مختلفة، مثل الحديد والفولاذ والبلاستيك ومعادن أخرى، ولوحات (ثنائي الفينيل متعدد الكلور PVC).
2- سمِّيتها: لاحتوائها على مجموعة واسعة من العناصر السامة حسب نوع المنتج، من بينها المعادن وأشباه الفلزات (الزرنيخ، والكادميوم، والنحاس، والرصاص، والزئبق، والنيكل، الزنك، إلخ)، ومثبطات اللهب (وتحتوي على كميات كبيرة من الكلوريد والبروم)، والبوليمرات البلاستيكية مثل PVC، وغازات الدفيئة (مثل مركبات الكربون الكلورية فلورية) والزيوت وغيرها.
3. احتواؤها على مكونات ذات قيمة اقتصادية: مثل الحديد والألومنيوم والفولاذ ومعادن ثمينة (مثل الذهب والفضة والبلاديوم والبلاتين والنحاس والروثينيوم)، إلخ، ما يدفع فئات من السكان إلى بذل مجهودات حثيثة للوصول لهذه المعادن لتحقيق الكسب الاقتصادي.
ويحمل العمل في الخردة في المناطق الفلسطينية أخطاراً كثيرة، منها أن الأطفال هم الفئة التي تعمل غالباً في نبش المكبات والتنقيب عمّا يمكنهم بيعه والاستفادة منه، وهم أيضاً منْ يفرزون المعادن، فيتعرضون خلال ذلك لخطر الإصابة، علماً أنهم يستخدمون أدوات حادة وثقيلة قد تؤذيهم، فضلاً عن مواد سامة يتعرضون لها، وتتسبب لهم بأضرار صحية متنوعة.
ويكون التخلص من خطر هذا النوع من النفايات أو التقليل منه بإصلاح المعدات الكهربائية أو الأجهزة الإلكترونية والاستمرار في استخدامها، وصناعتها أساساً بما يتوافق مع هذا الهدف، وإعادة تدويرها عند التلف، وفق طرق تتوافق مع الرؤية البيئية وبأيدٍ خبيرة وفي أماكن مخصصة لهذا الغرض.
معالجة النفايات الإلكترونية في الضفة الغربية
بدأ العمل بتجارة الخردة في فلسطين في تسعينيات القرن الماضي، وتوسعت في انتفاضة الأقصى عام 2000م، تحديداً في محافظة الخليل التي تستأثر بنسبة 40% منها.
الخبير البيئي جورج كرزم، لدى سؤاله عبر البريد الإلكتروني عن المناطق التي تحصل على نصيب الأسد من النفايات الإلكترونية للاحتلال في الضفة الغربية، ذكر أن بعض قرى جنوب الخليل، وبخاصة إذنا، هي الأكثر معاناة من النفايات الإلكترونية الإسرائيلية، وبمدى أقل بعض قرى غرب رام الله وقلقيلية وبيت لحم.
أما بشأن تأثير الحرق العشوائي للنفايات الإلكترونية التي تدخل مناطق الضفة الغربية من إسرائيل على البيئة الفلسطينية، فأفاد كرزم بأن حرق النفايات الإلكترونية يُطلِق غازات وجسيمات دقيقة سامة في الهواء، بالإضافة لبعض العناصر الثقيلة السامة التي تدمر التربة وتتسرب إلى المياه الجوفية، مثل الكروم والباريوم والزنك والرصاص والنيكل.
وقد شكَّلت طريقة فرز واستخراج المعادن مشكلة حقيقية للفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة، بسبب اللجوء إلى حرق الكابلات والأجهزة، ويؤدي الحرق إلى تشكُّل سحب دخانية ضخمة سوداء في سماء المنطقة، فضلاً عن أرضية الحرق التي تصبح سوداء مغبَرَّة سيئة الرائحة وشديدة التلوث بمواد سامة.
ويبدو أن سلطات الاحتلال قد حوَّلت الضفة الغربية إلى مكبٍّ لنفاياتها، وذلك ضمن خطة ممنهجة للتخلص من تلك النفايات، حيث يدخل يومياً أكثر من 1000 طن من النفايات الإسرائيلية إلى محافظة الخليل وحدها، خُفِّضت إلى 700 طن، نتيجة ملاحقة سلطة جودة البيئة ومتابعتها للأمر باستمرار.
تقرير لمجلة آفاق البيئة والتنمية أشار إلى أن مكبات النفايات الصلبة في المناطق الفلسطينية المنتشرة بطرق عشوائية في العراء تحوي كميات كبيرة من الزئبق والرصاص والكروم والكادميوم، التي تتسرب إلى التربة نتيجة حرق المخلفات الإلكترونية، ويمكنها أن تؤدي إلى آثار صحية حادة لأولئك الذين يعيشون بقربها. وتكمن خطورة هذا النوع من التلوث في أنه يمكنه التسبب في عيوب خلقية لدى الأجنة، أو أضرار بالأعضاء البشرية، بما في ذلك الدماغ والرئتان والقلب والكلى والكبد. فضلاً عن أن إتلاف النفايات الإلكترونية بهذه الطريقة ينشر مادة الديوكسين، التي تعتبر من السموم الخطيرة في الهواء والتربة والمياه الجوفية، وتهدد صحة الإنسان والكائنات الحية من نبات وحيوان، وتكفي بضعة شهور ليتحول حاسب آلي أو شاشة تلفزيون بين النفايات إلى قنبلة بيئية موقوتة، خاصة أن نسبة الرصاص يمكن أن تصل إلى 2 كغم لكل شاشة تلفزيون، وما يقارب نصف كيلوغرام لشاشة حاسوب واحدة.
أشار تقرير لوكالة سند إلى أن الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، "ذكر أن شاحنات النفايات تمر عبر حواجز الاحتلال وبعلمه وبالتنسيق معه، ما يبدو كاستهداف مباشر ومقصود للمواطن الفلسطيني، ولأرضه وبيئته وصحته وموارده الطبيعية".
وأكدت رئيسة سلطة جودة البيئة الفلسطينية، عدالة الأتيرة، في تصريحات لصحيفة "العربي الجديد"، وجود توجهات قديمة من الطرف الإسرائيلي بنقل النفايات الإلكترونية الخطرة إلى الأراضي الفلسطينية، في مخالفة واضحة لاتفاقية بازل، مستغلاً الظروف الاقتصادية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في المناطق القريبة من المعابر وجدار الفصل العنصري".
وبيَّن الدكتور أكرم عمرو، في دراسة أجراها، وجود ثلاثة أنواع من الورش تعمل على النفايات الإلكترونية في منطقة جنوب الخليل:
1. ورش التفكيك التي تُفكك فيها المعدات الإلكترونية ومعادنها، لتُنقل بعدها قطع الغيار إلى ورش عمل أخرى، أو تُعاد مباشرة إلى إسرائيل.
2. ورش التجميع التي تتاجر في المعادن مباشرة مع إسرائيل أو غيرها.
3. ورش تمزيق البلاستيك، ويوجد في إذنا 3 ورش تبيع قطع البلاستيك إلى مصانع إعادة التدوير الفلسطينية ومصنِّعي البلاستيك.
ويستمر الاحتلال في التخلص من نفاياته الإلكترونية في الأراضي الفلسطينية، ضارباً عرض الحائط المعاهدات والاتفاقيات التي هو أحد أطرافها، ولا يعبأ بالأضرار البيئية والصحية الناتجة عنها، ولن يتغير شيء ما لم توثق تعدياته بالوثائق والأرقام والدراسات العلمية التي تُقدم للمحاكم الدولية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.