"من الذي حوَّل رمضان من 30 يوماً إلى 30 حلقة؟".
لعلها أنسب كلمات تنطبق على واقعنا الحالي في كل رمضان؛ وقد أبدع في صياغتها "إمام الساخرين" الراحل جلال عامر كعادته في التقاط كل شيء وإعادة تدويره بطريقته الساحرة الساخرة.
وفي خضم "التخمة الدرامية" التي تحاصرنا كل موسم رمضاني بدا "مستفزاً" للغاية أن الخريطة التلفزيونية المكتنزة بالمسلسلات تضم عملاً تاريخياً واحداً فقط؛ وقد يرد عليّ البعض ويقول إنه "مؤشر جيد"؛ لأن السنوات الماضية كانت خالية تماماً من هذه النوعية، وهذا ما يقودنا كي نطرح سؤالاً منطقيا ونضع عنوانا عريضاً: من يقف وراء غياب أو بالأحرى "تغييب" المسلسلات التاريخية في الآونة الأخيرة؟ هل هي مجرد صدفة أن تتفق كل القنوات التلفزيونية وشركات الإنتاج من المحيط إلى الخليج على إلغائها دفعة واحدة؟
ما نشاهده حالياً ويتجسد في مسلسل "فتح الأندلس" العمل اليتيم الموجود على الشاشات كإنتاج جديد، يجعلنا نقف على معطى مهم للغاية ويفند بشتى الطرق تلك "المبررات الواهية" التي نسمعها بين الفينة والأخرى عن صعوبات في "تسويق" هذه الأعمال على الشاشات العربية.
وما نراه اليوم يمكن اعتباره دليلاً قاطعاً وردّاً حاسماً ويبدد هذا الطرح نهائياً، حيث إن المسلسل السالف الذكر جاب الفضائيات العربية من المغرب للمشرق وحصلت على حقوق عرضه قنوات عديدة وفي أوقات الذروة أيضاً؛ فهل ما زال هذا "العذر" مقبولاً يا ترى؟ وهل يمكننا البناء على ما حققه "فتح الأندلس" حالياً من انتشار كي نتفاءل بإمكانية وأمل عودة المسلسلات التاريخية للمحطات العربية كما كان عليه الحال سابقاً؟
والملاحظة الأخرى المهمة التي يمكن استخلاصها بمنتهى السهولة هي أن أغلبية الشاشات ما زالت تعكف على إعادة عرض المسلسلات التي أنتجت في سنوات خلت، وهي بالأساس ما تناسب خصوصية الشهر الفضيل على غرار "عمر" للثنائي "الخالد" الدكتور وليد سيف كاتباً والراحل حاتم علي مخرجاً؛ ولا بد من الإشارة إلى أن المسلسل ما زال يحافظ على السبق والرقم القياسي في الميزانية المخصصة له إنتاجياً والمقدرة بـ200 مليون ريال سعودي/ 53 مليون دولار، وطاقماً بلغ الثلاثين ألف شخص بين ممثلين وتقنيين ومشرفين عليه!
وبما أننا ذكرنا ثنائية وليد سيف وحاتم علي فمن الضروري أن نشير للمسلسلات التاريخية التي أبدعوا في حياكتها على غرار "صلاح الدين الأيوبي" وثلاثية الأندلس "صقر قريش" و"ربيع قرطبة " و"ملوك الطوائف" دون إغفال أن هذا المشروع ما زال مبتوراً، لأنه من المفترض أن يكتمل بالجزء الرابع وهو "سقوط غرناطة"، وهو حلم لم يمهل القدر حاتم علي حتى استكماله، مع العلم أنهم واجهوا صعوبات جمة في إنتاجه؛ وهذه مفارقة غريبة عجيبة حقاً ذلك أن الاثنين "علامة فارقة" ونجاح مضمون، ولحدود اليوم يعاد بث أعمالهما؛ فهل الأمر حقاً يرتبط بالإنتاج أم إن الرسائل التي تحملها هذه المسلسلات تقض مضاجع البعض مثلاً؟
فمن المعلوم أن هذه النوعية تحديداً ورغم أن الفترة الزمنية تبدو بعيدة والملابس والشخصيات تحيلنا لزمن غابر؛ فإن الحوارات وطريقة تقديم التاريخ تبدو واقعية ومباشرة، بل وتنافس المسلسلات ذات الطابع الاجتماعي وذلك ما كان يميز الثنائي المذكور؛ لكن بالعودة لنقطة إقبال القنوات على إعادة الأعمال التاريخية السابقة وحصولها على نسب مشاهدة مرتفعة رغم التكرار ومعرفة سير الأحداث؛ فمن يقف حقاً خلف "تغييب" هذه الأعمال خلال الفترة الحالية بالذات؟ ولماذا الخشية والخوف من إعادة قراءة وطرح التاريخ ودروسه إذاً؟
المؤكد أن الأصداء الإيجابية الحالية لمسلسل "فتح الأندلس" قد تعيد بناء جسور ثقة جديدة بين شركات الإنتاج والقنوات، هذا إذا كان الأمر فعلاً يتوقف على ذلك والأسباب تنحصر فقط في الشقين المادي والتسويقي رغم أننا نشك في ذلك وقد ذكرنا ما يدحض هذه النظريات؛ و"الفضائيات" تفضل الغرق في "نعيم" التاريخ العثماني والإيراني بدل مواجهة الحقائق واستخلاص العبر من التاريخ العربي نفسه، وهو الأوْلى، هذا إذا كانت تبث مسلسلات تاريخية عن العثمانيين أصلاً.
فهل سيتغير الوضع يوماً ما؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.