على وقع تداعيات كورونا مرت العديد من الشركات العاملة في قطاعات حيوية بأزمات مالية، ولجأت العديد من الدول لعدد من الإجراءات الوقائية لحماية أمنها القومي عبر فرض قيود استثنائية على بيع تلك الشركات لدول أجنبية، فأعلنت اليابان في عام 2020 قائمة تضم ما يزيد عن 500 شركة ستخضع لإجراءات تدقيق مشددة قبل بيعها لمستثمرين أجانب بما في ذلك شركات تعمل في مجال الخدمات الصحية والأمن السيبراني، أما فرنسا فعدلت قوانينها لتشترط على المستثمرين الأجانب إخطار السلطات الفرنسية بأي عملية استحواذ على حصص في شركات فرنسية تزيد نسبتها على 10% بدلاً من 25% سابقاً، بينما طُرح في بريطانيا مشروع قانون للاستثمار يمنح وزارة الخارجية حق الاعتراض على أي كيان أجنبي يسعى للاستحواذ على شركة بريطانية تمثل أعمالها أهمية للأمن القومي، ولكن في مصر سارت الأمور في اتجاه معاكس حيث لجأت الحكومة خلال الشهور الأخيرة لبيع شركات رابحة وحيوية لحكومات غير مصرية.
دوامة الديون وبيع الأصول
منذ عام 2013 انخرطت الحكومات المصرية المتعاقبة في مشاريع بنية تحتية شملت بناء طرق وكباري وعاصمة إدارية جديدة وصفقات تسليح باهظة دون الانخراط في مشاريع إنتاجية موازية، فقفز الدين الداخلي من ١٥٢٧ مليار جنيه عام ٢٠١٣ إلى أكثر من ٤٥٠٠ مليار جنيه عام ٢٠٢١، وأما الدين الخارجي فتضاعف أكثر من ثلاث مرات حتى وصل في عام 2021 إلى 138 مليار دولار بعد أن كان 40 مليار دولار في عام 2014. وأصبح بند سداد الديون وفوائدها يتجاوز 60% من حجم الموازنة، وفي مواجهة ذلك بدأت الحكومة تفكر في بيع أصول الشركات الحكومية وممتلكات الدولة عبر تأسيس صندوق سيادي في عام 2018 تحت لافتة (تشجيع الاستثمار المشترك في الأصول المملوكة للدولة من أجل زيادة قيمتها وفعاليتها للاقتصاد المصري)، وجرى تعديل القوانين بشكل يمنع المواطنين أو أي مؤسسة سوى الجهة البائعة أو المشترية من الطعن على عقود بيع الأصول الحكومية. وفي عام 2019 اتفقت القاهرة وأبوظبي على تأسيس منصة استثمارية بقيمة 20 مليار دولار بالشراكة بين صندوق مصر السيادي وشركة أبوظبي التنموية القابضة.
ثم جاءت تداعيات انتشار كورونا التي شملت اضطراب سلاسل الإمداد وارتفاع تكاليف الشحن، ليليها اندلاع الحرب في أوكرانيا وما واكبه من ارتفاع أسعار النفط والغذاء ليضع الحكومة المصرية أمام لحظة الحقيقة، إذ وضعت الميزانية على أساس سعر 60 دولاراً لبرميل البترول، و255 دولاراً لطن القمح، في حين تجاوز سعر برميل البترول 100 دولار، وتخطى سعر طن القمح 400 دولار، كما تراجع عدد السياح من روسيا وأوكرانيا الذين يمثلون 20% من عدد السائحين الوافدين إلى مصر، ثم رفع البنك الفيدرالي الأمريكي نسبة الفائدة على القروض فسحب المستثمرون الأجانب 3 مليارات دولار من سوق الديون المصرية في أقل من شهر للاستفادة من ارتفاع عوائد الفوائد الأمريكية.
وفي مواجهة تلك الأوضاع سارع البنك المركزي المصري لرفع نسبة الفائدة، وتخفيض قيمة الجنيه ليتراجع من 15.66 إلى 18.25 جنيه أمام الدولار، وذلك بهدف الحفاظ على جاذبية سوق الديون المصري الذي يعطي إحدى أكبر نسب فائدة للدائنين على مستوى العالم، وللسيطرة على التضخم عبر إغراء المواطنين بوضع أموالهم في البنوك للاستفادة بنسبة فائدة بلغت 18%.
دعم خليجي ضخم
في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور بدأت القاهرة مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، فيما زار السيسي السعودية والكويت واجتمع مع ولي عهد أبوظبي ووزير الخارجية القطري، وأسفرت تلك اللقاءات عن تقديم السعودية وديعة بمقدار 5 مليارات دولار فيما تعهدت بضخ 10 مليارات دولار أخرى كاستثمارات، وكذلك تعهدت قطر باستثمار 5 مليارات دولار بينما خصصت الإمارات 2 مليار دولار لشراء أسهم حكومية في خمس شركات مصرية كبرى، تشمل 18 % من البنك التجاري الدولي، وحصص في شركة أبو قير للأسمدة، وموبكو للأسمدة، وفوري للمدفوعات الإلكترونية، والإسكندرية للحاويات والبضائع. كما دار حديث عن احتمال بيع محطات إنتاج كهرباء وبعض مشاريع جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، وبدأ بعض الإعلاميين مثل عمرو أديب التمهيد لبيع شركة مصر للطيران والبريد المصري.
لقد اتجهت الحكومة المصرية لبيع أصول رابحة بهدف توفير سيولة من النقد الأجنبي، لكنها بذلك تفتح الباب أمام بيع أصول الدولة وتمليك شركات استراتيجية لغير مصريين، وهو ما تزداد خطورته المستقبلية بعد سابقة هيمنة الإمارات على حصة كبيرة في سوق الصناعات الدوائية والغذائية والعقارات في مصر عبر شراء شركة أبوظبي التنموية القابضة لشركة أمون فارما في عام 2021 بمبلغ 640 مليون دولار، فضلاً عن شراء ذات الشركة التابعة لصندوق أبوظبي السيادي لشركة سوديك للعقارات بمبلغ 6.6 مليار جنيه في عام 2021، وشرائها 75% من شركة الإسماعيلية للاستثمار الزراعي والصناعي بقيمة 3.2 مليار جنيه.
أما الجانب السلبي الثاني فيتمثل في أن الحكومة المصرية تبيع حالياً أصول شركات رابحة مما يحرم المصريين من إيراداتها المستقبلية مثل شركة أبوقير للأسمدة التي حققت صافي ربح في العام الماضي تجاوز 3.5 مليار جنيه، وتصدر 45% من إنتاجها للخارج. فالاتفاقيات الاستثمارية مع الجانب الإماراتي اقتصرت على بيع أصول لشركات رابحة دون الانخراط في مشاريع جديدة توفر فرص عمالة وتساهم في تطوير القدرات الإنتاجية في مصر.
هل سيحل الدعم الخليجي وبيع الأصول الأزمة الاقتصادية؟
إن مقاربة الاستدانة وبيع الأصول المربحة لتوفير النقد الأجنبي بهدف توفير سيولة لسداد فوائد الديون واستيراد الضروريات الأساسية تعمق من أزمة الاقتصاد المصري ولا تحلها لأنها لا تعالج المشاكل الهيكلية الموجودة في بنية الاقتصاد، وسبق أن مرت مصر بأزمة شبيهة في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وصلت إلى حد التوقف عن سداد بعض الديون الخارجية في عام 1989 لكن جاءت المشاركة المصرية في حرب الخليج الثانية ضد العراق ضمن قوات التحالف الدولي كمنقذ، فمن باب رد الجميل شطبت الدول الأجنبية الدائنة أكثر من نصف ديونها الخارجية فيما شطبت السعودية والكويت ديونها بالكامل، وفي المجمل جرى شطب 17 مليار دولار من ديون مصر. ولكن هذا لم يمنع من تكرار الأزمة مجدداً بشكل أكبر نظراً للخلل في طريقة إدارة الاقتصاد المصري.
وإن التدهور الاقتصادي الحالي قابل للتفاقم مع توقع رفع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لنسبة الفائدة عدة مرات خلال العام الجاري، وهو ما سيدفع البنك المركزي المصري لرفع معدل الفائدة مجدداً للحفاظ على جاذبية الديون المصرية أمام المستثمرين الأجانب كي لا يسحبوا أموالهم ويضعوها في البنوك الأمريكية، وهو ما سيدفع باتجاه المزيد من الركود الاقتصادي.
إن مواجهة الأزمة الحالية تتطلب سياسات رشيدة تبتعد عن إهدار الأموال الحكومية في بناء أكبر مسجد وأضخم كنيسة وأطول برج ومشاريع غير ذات مردود اقتصادي لتركز على بناء استثمارات صناعية وزراعية وتقنية، وإفساح المجال أمام شركات القطاع الخاص، وتطوير التعليم والصحة بهدف إحداث تنمية اقتصادية حقيقية، وهو ما يتطلب انفتاحا سياسيا بدلا من المضي في سياسات مدمرة اقتصادياً تنتقل بالمواطن من سيئ إلى أسوأ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.