استفاق العالم على مناظر مروّعة لجثث وأشلاء تناثرت في طرقات مدينة بوتشا الأوكرانية بعد انسحاب القوات الروسية منها، كما أظهرت التقارير الواردة من هناك صوراً لمقابر جماعية وخنادق تمتد لعشرات الأمتار تم رصدها عبر الأقمار الصناعية، وتعالت نتيجة ذلك الأصوات المنددة بهذه الجرائم.
فقد عبّرت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها عن صدمتها في المشاهد، واصفاً إياها بالمؤلمة، وتوالت بيانات الشجب لكثير من دول العالم ومؤسساته الأممية مستنكرة المجازر المرتكبة هناك، واعتبر البعض أنها ترتقي لمستوى الإبادة الجماعية، وهي لا شك مواقف واقعية لكل متابع منصف، لكنها مع الأسف غير منصفة لمثيلاتها في جغرافيات أخرى وفي مقدمتها المجازر الفظيعة التي ارتكبها الروس في المدن السورية على مدار سبع سنوات خلت وما زالت مستمرة؟!
وها هو العالم يقف على قدم واحدة مستنفراً لمحاسبة روسيا ويدعو إلى توثيق أدق تفاصيل الانتهاكات المرتكبة ضد حقوق الإنسان في أوكرانيا ويندد بها على أعلى المستويات ويعد الشعب الأوكراني بأنها لن تمر دون عقاب وستكون على رأس أجندة المحاكم الدولية.
ولكنه مع الأسف وفي ذات الوقت لا يكاد يحرك ساكناً أمام مئات المجازر وآلاف الضحايا في سوريا والتي تم توثيقها ورصدها عبر مؤسسات حقوقية محلية ودولية بالأرقام والأدلة والبراهين القطعية.
فمنذ التدخل الروسي في 30 من سبتمبر/أيلول 2015 شنت الطائرات الروسية أولى غاراتها في سوريا مستهدفة مدينة جسر الشغور بريف إدلب، وواصلت منذ ذلك التاريخ شن الضربات التي استهدفت المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، لتحولها إلى مناطق شبه مدمرة.
وقد تركزت الغارات الروسية على المناطق المأهولة بالسكان، ومنازل المدنيين، والمراكز الصحية والخدمية والمنشآت الصناعية، بهدف تدمير الحياة في المناطق الخارجة عن سيطرة حليفها بشار الأسد، وجعلها مستحيلة، لدفع أهلها إلى النزوح، وهو ما تجلى بوضوح في أحياء حلب الشرقية، التي دُمرت واضطر من بقي من سكانها على قيد الحياة إلى القبول بالتهجير الجماعي، في أواخر العام 2016.
بعد أحياء حلب الشرقية، وجهت روسيا آلة قتلها نحو ضواحي دمشق، ومناطق في الجنوب السوري (الغوطة الشرقية، القلمون، مخيم اليرموك، درعا)، واستطاعت بفعل الأسلحة الفتاكة والصواريخ الفراغية والارتجاجية، وغيرها من الأسلحة المحرمة دولياً، تكرار تجربة أحياء حلب الشرقية، في عام 2018.
ومن الجنوب انتقلت نحو إدلب وأرياف حماة وارتكبت هناك عشرات المجازر، واليوم تهدد روسيا بمواصلة هجماتها في إدلب، وتشن طائراتها الغارات على المناطق الآهلة بالسكان، وترتكب المجازر، دون أي رادع.
وعليه، فقد تسببت روسيا بمقتل وجرح أكثر من 12 ألف مدني في سوريا في الفترة الممتدة من 30 سبتمبر/أيلول 2015، وحتى 20 سبتمبر/أيلول 2021، وفق أرقام نشرتها منظمة "الدفاع المدني السوري" وأضافت المنظمة أنها وثقت لوحدها 5586 هجوماً روسياً في هذه الفترة، مؤكدة أن هذا الرقم لا يشمل كل الهجمات، إنما فقط ما استجابت له الفرق التابعة لها، مشيرة إلى وجود عدد كبير من الهجمات التي لم تتمكن الفرق من الاستجابة لها، كما أنها لا تشمل الهجمات المشتركة بين نظام الأسد وروسيا.
بدورها، وثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، مقتل 6910 مدنياً بينهم 2030 طفلاً و974 سيدة، على يد القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا.
وأكدت في إحصائية لها أنها أحصت ما لا يقل عن 357 مجزرة ارتكبتها القوات الروسية، مبينة أن العام الأول لتدخلها شهد الحصيلة الأعلى من المجازر.
وكان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، قد أكد في تصريح له أن قوات بلاده جربت أكثر من 320 نوع سلاح مختلفاً خلال عملياته في سوريا، وأضاف في كلمة له في شركة "روست فيرتول" الروسية لصناعة المروحيات، أن الأخيرة طورت إحدى مروحياتها نتيجة العمليات العسكرية في سوريا.
وبعد التدخل العسكري لصالح النظام، استخدمت روسيا حق النقض "الفيتو"، 16 مرة، كان آخرها التصويت ضد تمديد التفويض لآلية إدخال المساعدات العابرة للحدود، ساعية للاقتصار على معبر واحد.
كما صوّتت ضد تمديد عمل اللجنة الدولية في سوريا، وضد قرارات مجلس حقوق الإنسان، وضد إنشاء آلية التحقيق المحايدة المستقلة، وضد لجنة نزع الأسلحة الكيميائية.
هذه الأرقام هي غيض من فيض الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الروس في سوريا على مدار سبع سنوات ولا يزال يرتكبها حتى الآن؟! والأسئلة المطروحة أمامها أين هو العالم الحر منها؟! ولماذا الكيل بمكيالين في تعاطيه مع غيرها كما يجري اليوم في أوكرانيا؟! وإلى متى هذه الازدواجية في المعايير؟!
أمام هذا العالم فرصة كبيرة أن يكون منصفاً وعادلاً وأن يعبر بنجاح اختبار المصداقية في أطروحاته التي تدافع عن حقوق الإنسان وتكفلها وإلا فإنه السقوط المدوي الذي سيسجله التاريخ بأحرف من عار؟!
لقد أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية بوضوح حجم التباين والتناقض في طريقة تعاطي الدول التي كانت تدعي صداقتها للشعب السوري عبر أسلوب وآليات دعمها للشعب للأوكراني عسكرياً ولوجيستياً، فما كان ممنوعاً على ثورة الشعب السوري قدمته هذه الدول على طبق من ذهب للشعب الأوكراني ما انعكس على صموده وتصديه للغزو الروسي وما شكّل فارقاً في نتيجة المعركة الدائرة حتى الآن لصالح الأوكران.
وإذا كانت هذه الدول لا زالت تزعم بأنها صديقة للشعب السوري فليس أقل من أن تحاسب الأطراف التي ارتكبت جرائم بحقه وفي مقدمتها روسيا لا سيما أن البيئة مواتية لذلك في ظل ما اقترفه الروس من جرائم وانتهاكات في أوكرانيا.
ورغم أن المطلوب منها أكثر من ذلك فهي بوسعها أن تستثمر في حالة الانشغال الروسي في أوكرانيا وتعيد ترتيب أوراقها في سوريا فتضغط هناك لتحصيل مكاسب على الأرض لصالح الثورة السورية، فهذا يصب استراتيجياً في وقف تمدد المشروع الروسي في منطقة الشرق الأوسط ويعيد التوازن الذي فُقِد هناك بفعل التدخل والتوغل الروسي في سوريا.
بقي القول إن هناك واجباً ودوراً يجب أن تضطلع به قوى الثورة والمعارضة متعلقاً بتوظيف حالة الدعم الغربي للشعب الأوكراني سواء من خلال العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا والجهود المبذولة لمقاطعتها وحالة العزلة الدولية التي تواجهها، وذلك من خلال البناء على كل ما سبق في استحضار المقارنة مع الحالة السورية والمطالبة بعدم الازدواجية في المعايير وتطبيق ذات الإجراءات على روسيا ضمن الجغرافية السورية ومع الشعب السوري ربطاً بالنتائج الكارثية والمدمرة التي خلفها التدخل الروسي في سوريا.
وهذه مهمة ملقاة على عاتق جميع مكونات قوى الثورة والمعارضة السورية تحديداً التي تعيش في عواصم صنع القرار الغربي، والتي لديها تواصل وتنسيق معها فهذه فرصة لإعادة تفعيل الملف السوري في أروقة كافة المحافل والمنابر الدولية وضمن أوساط الجهات المعنية عبر جهد دبلوماسي حقوقي تكاملي يضغط بقوة على الأطراف جميعها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.