تتعزز السلسلة الكفاحية المستمرّة في الضفّة الغربية والقدس، بشهر آذار/مارس المنصرم، الذي منح هذه السلسلة المزيد من الصلابة، وأكّد أنّ الحالة الكفاحية الجارية في طور الثبات أو التصاعد لا في طور التراجع، فبحسب إحصاءات جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك"، ارتفعت أعمال المقاومة في آذار/مارس ارتفاعاً مزدوجاً من حيث الكمّ والكيف.
بغض النظر عن أحداث الاشتباك بالحجارة مع قوات الاحتلال، إذ يصعب حصرها، فإنّ أعمال المقاومة في شهر آذار/مارس بلغت 190 عملاً، 161 منها منطلقة من الضفة الغربية في حين أنّ 29 منها انطلقت من القدس أو من الداخل المحتلّ عام 1948، وذلك في مقابل 187 عملاً في الشهر الذي سبقه شباط/فبراير، هذه الزيادة مطّردة منذ أواخر العام 2021، بحيث تزيد أعمال المقاومة في كلّ شهر عمّا سبقه، مما يربط الحالة الكفاحية الجارية بأحداث أيار/مايو الماضي فيما عُرف فلسطينيّاً بمعركة "سيف القدس".
الأمر الذي يعني أن المفاعيل والتأثيرات التعبوية لتلك الأحداث لم تزل تعمل بعمق في الشارع الفلسطيني، على نحو حوّل الضفّة الغربية إلى ساحة المقاومة المفتوحة، وانتقل بالعمليات المؤثّرة إلى الداخل المحتلّ، في حين تبقى المقاومة في قطاع غزّة على جهوزيتها وبالقدر الذي من شأنه أن يذهب بالأحداث إلى مستويات أبعد في حال انعطفت التحوّلات نحو تدخّلها في الأحداث الجارية.
من حيث النوع، أسفرت العمليات في شهر واحد عن 11 قتيلاً إسرائيليّاً و27 جريحاً، في حين أنّ عدد القتلى الإسرائيليين في شباط/فبراير بلغ قتيلاً واحداً فقط، وفي كانون الثاني/يناير قتيلين، ويرجع ذلك أولاً، إلى كثافة العمليات النوعية؛ 7 عمليات طعن، وعملية دعس، و14 عملية إطلاق نار، وأهمها عملية بئر السبع التي نفذها فلسطيني من النقب في الداخل المحتل، وعملية الخضيرة التي نفذها فلسطينيان من أم الفحم بالداخل المحتل، وعملية "بني براك" في "تل أبيب" التي نفذها فلسطيني من بلدة يعبد بالضفة الغربية، وقد تركزت عمليات الطعن في القدس ومحيطها. ويضاف إلى هذه الكثافة 16 عملية إضرام نار، و17 عملية إلقاء عبوة أنبوبية، و131 عملية إلقاء زجاجة حارقة.
مما يمكن الوقوف عليه من هذا الاستعراض لأعمال المقاومة:
أولاً- التصاعد والتجدّد، ولا يعني التصاعد أن يتفوق كلّ شهر على الذي سبقه في الكمّ، ولكن تكفي نسبة ثبات واضحة، وإن كان التفوق المرصود لا يخلو من دلالات ظاهرة، أمّا التجدّد فهو العودة بين فترة وأخرى لنمط من العمليات النوعية المؤثّرة، بيد أن كثافتها الملحوظة في آذار/مارس قد لا تنفصل عن حالة التأهب المتبادلة، فلسطينية وإسرائيلية، قبل دخول شهر رمضان، والحديث المطّرد عن احتمالات تصعيد فائق في رمضان، لتزامنه مع الأعياد اليهودية، واحتمالات اقتحامه من مستوطني الاحتلال بحماية قواته المسلحة.
ثانياً- الاتصال والتواصل، فتصاعد الحالة الكفاحية الراهن، متصل عضويّاً بأحداث أيار/مايو الماضي (معركة سيف القدس)، التي يمكن وصفها، على محدودية زمنها، بأنّها من أهم المحطات الكفاحية أثراً في الفلسطينيين، على الأقل منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، ويمكن هنا، القول كذلك، إنّ هذه المحطة مرتبطة بحرب العام 2014 على قطاع غزّة، فقد مثّل أداء المقاومة الملحمي في تلك الحرب رافعة تعبوية غير مسبوقة للفلسطينيين في الضفة والقدس الذين مورست عليهم عمليات التجريف السياسي والهندسة الاجتماعية والتفكيك التنظيمي، ولاسيما من بعد ما سمي بالانقسام الفلسطيني عام 2007.
فقد انعكست حرب العام 2014 في "هبّة القدس" في تشرين الأول/أكتوبر 2015، ومنذ ذلك التاريخ والحالة الكفاحية مستمرة، وتعيد تجديد نفسها بأنماط تصعيدية، كما في هبات 2017 و2019 و2021، لتكون الأخيرة الأكثر فاعلية في اتصالها، وفي تأثيراتها المستمرّة، ويمكن ربط العمليات المنطلقة من الداخل المحتلّ أخيراً، بالمشاركة الكثيفة للفلسطينيين في الداخل المحتلّ بمعركة سيف القدس العام الماضي، بالإضافة لمحرّكات ودوافع أخرى.
ثالثاً- التنوّع والتكيّف، بحيث لا تأخذ المقاومة شكلاً واحداً، وإنما تتعدّد وتتنوّع في أنماطها، ثم هي تتكيّف مع الوقائع الأمنية والسياسية الصعبة في الضفّة الغربية والقدس، فمع قدرات الاحتلال الأمنية الفائقة، وأدواته الهائلة في الضبط والسيطرة والتحكّم بمفاصل منطقة صغيرة، هي الضفة الغربية، بعدد سكان قليل نسبيّاً، ومع عمليات التفكيك التي تعرّضت لها الحالة الوطنية عموماً وفصائل المقاومة خصوصاً، وتحديداً من بعد العام 2007، وبالنظر إلى موقف السلطة الفلسطينية المناوئ لفكرة مواجهة الاحتلال، فإنّ الجماهير تكيّفت مع ذلك بأنماط متعدّدة من المقاومة الشعبية، والنوعية، ومن صور المقاومة الشعبية، الفعاليات الثابتة لمقاومة البؤر الاستيطانية، ومن صور المقاومة النوعية عملية الطعن والدعس المتجدّدة، بيد أنّ العمل المنظّم، آخذ أكثر في محاولة استعادة عافيته، كما في عمليات إطلاق النار في شمال الضفّة الغربية، وعودة ظاهرة المطاردين، وبعض العمليات النوعية المنظّمة، التي تنبعث بين فترة وأخرى.
وقوع هذه الكثافة، قبيل شهر رمضان، وعلى نحو متصل بمعركة سيف القدس، يعزّز التوقعات الإسرائيلية والفلسطينية حول احتمالات التصعيد الكبير في رمضان، ولذلك دفع الاحتلال نحو حملة دبلوماسية واستخباراتية لاستباق شهر رمضان، من خلال اللقاءات المتعدّدة مع قيادات السلطة والأردن والإقليم العربي، وكذلك اتصالات استخباراتية وصلت الولايات المتحدة، كما عمل الاحتلال على تجميد بعض عناصر التثوير، مثل تجميد إخلاء أربع عائلات من حي الشيخ جراح بالقدس، والامتناع عن نشر الحواجز الحديدية في ساحة باب العمود.
لكن الاحتلال في المقابل لا يمكنه تجميد عوامل التثوير بالكامل، فطبيعته الاستعمارية تقوم على النفي والتمدّد وتكريس الوقائع، ولاسيما تكريس الوقائع في القدس، ومن ذلك فرض إرادته على طبيعة الحضور وشكله في ساحة باب العمود، وتطبيع اقتحام المسجد الأقصى أثناء المناسبات الإسلامية، بعدما كرّس ذلك في الأيام العادية، وهو ما يعني احتمالات تجدّد المواجهات في شهر رمضان، بيد أنّ هذه الاحتمالات منوطة إلى حدّ كبير بسلوك الاحتلال.
يمكن القول إن اقتحام المسجد الأقصى في شهر رمضان، قد يكون من أهم عوامل التثوير، لكن هذا بدوره منوط بالاقتحام شكلاً وحجماً ووقتاً، ففي حين كان الحجم ضخماً وفي أوقات الذروة التي تشهد كثافة وجود فلسطيني، فإنّ هذا من شأنه أن يدفع نحو انفجار التصعيد، وفي حين كان الحجم محدوداً وفي غير أوقات الذروة فقد يكون الاحتكاك محدوداً، كما أنّ قرار المقاومة في قطاع غزّة بالدخول في المواجهة في حال انفجرت الهبّة من شأنه أن يذهب بها إلى مدى أبعد، بيد أنّ للمقاومة حساباتها المتعدّدة المتعلقة بالظرف الداخلي، وتقييم الهبة، والظرف الإقليمي والدولي.
إنّ التصعيد المرتقب ليس حتميّاً لارتباطه بعوامل يصعب التنبؤ بها، ولكنه واقعي ووارد في الوقت نفسه، لكن المهم، هو أننا إزاء حالة كفاحية موجودة، بغض النظر عن احتمالات تصاعدها على نحو جوهري في رمضان الجاري، وهذه الحالة الكفاحية تتسم في ذاتها بالتصاعد والتجدد، كما سبق شرحه، كما تتسم بالتداخل والتأثير الذاتي.
فكما أن معركة "سيف القدس" لم تزل فاعلة، فإنّ مجمل الأعمال المتجدّدة، تعطي دافعية لأعمال أخرى، وهو ما حصل في آذار/مارس المنصرم، وذلك بالرغم من التحفّز الأمني العالي للاحتلال أصلاً، فقد بلغ عدد الشهداء في آذار/مارس 18 شهيداً فلسطينياً، وبلغ عدد المعتقلين الفلسطينيين 408 معتقلين، وقد تركزت الاعتقالات في القدس، وهذا بالإضافة لعملية الاحتلال التعزيزية التي سماها "كاسر الأمواج"، والتي يشنها على الضفة الغربية بعد سلسلة العمليات الفلسطينية الأخيرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.