لم يتبقَّ على الدور الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022 سوى أيام معدودة، تعد هذه الانتخابات الأولى من نوعها في ظل محددات الجمهورية الخامسة والتي عرفت قفزة نوعية في الخطاب الشديد اللهجة ضد المهاجرين العرب والمسلمين في فرنسا، مما دفع بمرشحي اليمين واليمين المتطرف إلى الأخذ بهذا الخطاب المنافي لعملة الجمهورية الفرنسية: الحرية والمساواة والأخوّة.
تعقد الانتخابات الرئاسية الفرنسية في ظل غياب مرشحين ذوي ثقل سياسي وريادي، بل حتى ثقافي من حيث الفكر والحنكة السياسية على غرار مرشحي الرئاسة في سبعينات وثمانيات القرن الماضي بل حتى في بداية ألفية هذا القرن.
بات الحديث هذه الأيام عن مارين لوبان مرشحة حزب "التجمع الوطني" اليمين المتطرف بصعود نجمها في سماء الانتخابات الفرنسية واحتمال ترشحها للدور الثاني يوم 24 أبريل /نيسان، لكن هذه المرة السؤال المتداول عند المحللين هل يمكن لمارين لوبان أن تفوز في الانتخابات الرئاسية وأن تصبح مارين لوبان أول رئيسة للجمهورية الفرنسية؟
سطوع نجم مارين لوبان
تأهل مارين لوبان للدور الثاني، كان السيناريو الأمثل وحلم الرئيس المنتهية ولايته الرئيس المرشح إيمانويل ماكرون الذي هو الآخر لم يدخل الحملة الإنتخابية إلا في الأيام القليلة المتبقية من يوم الإستحقاق الدور الأول أي يوم 10 أبريل/نيسان، يظن الرئيس ماكرون أن أمر الانتخابات حسم لصالحه- يحاول أن يستثمر في الحرب الروسية-الأوكرانية كونه القائد العام للقوات المسلحة.
يريد الرئيس ماكرون أن يتموقع كزعيم في وقت الحرب، كما يدافع مناصروه ومساندو حزبه الجمهورية إلى الأمام على أنه صاحب خبرة في إدارة الأزمات، وأن عهدته الأولى عرفت احتجاجات اجتماعية عنيفة في بداية عهدته مع "السترات الصفراء" وبعدها جائحة كورونا، ومنها إلى الاضطرابات الأمنية الأخيرة في جزيرة كورسيكا مروراً بالحرب الروسية-الأوكرانية وانعكاساتها على الاقتصاد الفرنسي.
كل الأحداث الداخلية والإقليمية جعلت الرئيس الحالي مرشحاً لعهدة ثانية، وهو ما يجعله يشعر بالراحة والطمأنينة، لكن ما يختلف هذه المرة عن الانتخابات السابقة التي عقدت عام 2017 هو أن الرئيس ماكرون ليس هو إيمانويل ماكرون الشاب المتحمس الذي أراد أن يغيّر المنظومة السياسية في فرنسا وأعلن ثورة تصحيحية ضد "العالم القديم" كما سماه في كتابه "الثورة معركتنا من أجل فرنسا".
بات اليوم الرئيس المرشح ماكرون معروفاً سياسياً وكشف كل أوراقه في إدارة البلد خلال الخمس سنوات الماضية لدى فئات هائلة من الناخبين الفرنسيين وأنه لم يأتِ بجديد بل قد تسبب في انكسار سمعة فرنسا على الصعيد الدولي وقسّم المجتمع الفرنسي- ولم يكسر شوكة تيار اليمين المتطرف والتطرف السياسي والثقافي كما وعد في ليلة انتخابه عام 2017.
على عكس ذلك، عزز من صعود اليمين المتطرف بسبب خطابه الاستعلائي وسياساته الظالمة تجاه العرب والمسلمين؛ بل هي لا تختلف عن خطاب ومقترحات مرشحة اليمين المتطرف حزب "التجمع الوطني"، مارين لوبان.
صعود مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، وفرص تأهلها للدور الثاني واحتمال فوزها أصبح خطر وجودي للرئيس المرشح إيمانويل ماكرون؛ بناء على معطيات علم الاجتماع السياسي والبنية الاجتماعية والديموغرافية للناخب الفرنسي.
فهذه المرة حجة إيقاف الخطاب العنصري والمنافي لقيم الجمهورية وأن حزب مارين لوبان ليس حزباً سياسياً كلاسيكياً بمفهوم النظرية العامة للأحزاب السياسية، هذه الحجج باتت لا تُقنِع الناخب الفرنسي عموماً وناخب الأحزاب اليمينية خصوصاً، خاصة أن إريك زيمور مرشح حزب اليمين المتطرف العنصري "استرداد" قد نجح في تحسين صورة مارين لوبان وجعلها تظهر للإعلام والناخب كمرشحة يمينية كلاسيكية، بل نجح أيضا في تهميش مرشحة اليمين المعتدل السيدة فاليري بيكريس.
علاوة على ذلك وجود مرشحة حزب التجمع الوطني مارين لوبان في الدور الثاني بدأ يربك فريق الرئيس المرشح ماكرون في بيت حزب "الجمهورية إلى الأمام" وفي أوساط "الإستبلشمنت" الباريسي الذي بدأ يخشى صعود مارين لوبان هذا وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة، وبالتالي يمكنها أن تقلص الفجوة بينها وبين إيمانويل في مباراة الحسم في الجولة الثانية، مقارنة لعام 2017.
علماً أن المسألة مصيرية لدى مرشحة حزب "التجمع الوطني" وآل لوبان خصوصاً في حالة هزيمتها. للتذكير بأن مارين لوبان قد ترشحت ثلاث مرات في أعوام 2012 و2017 و2022، عندها سيكون نهاية آل لوبان للحياة السياسية في فرنسا، التي عاشتها عائلة لوبان منذ أربعة عقود، أدارها من قبلها والدها جان ماري لوبان منذ عام 1972.
آل لوبان وفرنسا المتمردة
مشاركة حزب اليمين المتطرف في الاستحقاقات السياسية في فرنسا تعود إلى عهد الأب جان ماري لوبان عرّاب حزب اليمين المتطرف حزب "التجمع الوطني" (الجبهة الوطنية سابقاً) والذي هو الآخر أحدث زلزالاً سياسياً في فرنسا في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 حينها تأهل للدور الثاني، حيث أقصى مرشح الحزب الاشتراكي ليونيل غوسبان.
عقدين مرا على زلزال أبريل/نيسان 2002، حيث تحول حزب "الجبهة الوطنية من حزب عنصري متطرف إلى حزب تقليدي باستطاعته أن يصل إلى السلطة. تحوّل حزب آل لوبان في المعادلة السياسية الفرنسية جعل حزب اليمين التقليدي يكاد ينقرض على غرار الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي فجره الرئيس المرشح ماكرون عام 2017، مما جعل الناخب الفرنسي اليوم ينظر لحزب مارين لوبان على أنه حزب سياسي تقليدي بديل، وبالتالي بإمكانه الحكم ودخول مارين لوبان إلى قصر الإليزيه.
عندها سيناريوهات انتخابات 2002 و2017 والحديث عن ضرورة إنشاء جبهة جمهورية لإيقاف "الخطر اللوباني"، لن يكون سوى خطاب نخبوي بلا جاذبية عند الناخب الفرنسي، ما يعني أنه بإمكان مارين لوبان إحداث الانفجار العظيم يوم 24 إبريل/نيسان.
روز لاعب ثالث في معركة الانتخابات الرئاسية الفرنسية زعيم "فرنسا المتمردة" من تيار اليسار، جان لوك ميلنشون، بدأ نجمه يبزغ هو الآخر في استطلاعات الرأي. لوبان وميلنشون يصنعون الفارق حالياً، كلاهما وضع المواضيع الاجتماعية التي تميزت بالعودة الحادة لقضايا القدرة الشرائية والارتفاع المفاجئ في أسعار البنزين في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية الراهنة.
مع تركيز مرشحة حزب "التجمع الوطني" في حملتها الانتخابية على القدرة الشرائية للفرنسيين بدلاً من الأمن والهجرة و"الإسلام المتشدد" ما أدى إلى تهميش مرشحي اليمين واليمين المتطرف، فاليري بيكريس وإريك زمور.
في آخر استطلاع رأي نشره معهد "ELAB" استطاعت مرشحة مارين لوبان أن تقلص الفجوة بينها وبين ماكرون إلى 6 نقاط، وهذا أول إقرار من معاهد استطلاع الرأي بصعود مرشحة حزب "التجمع الوطني".
وعلى عكس انتخابات عام 2017، تستفيد من احتياطيات الصوت عند إريك زيمور وبين أكثر الناخبين اليمينيين المتطرفين في حزب الجمهوريين مثل جناح إريك سيوتي. الذي سبق وأعلن عن تفضيله زيمور على ماكرون في حالة تأهل الأول للدور الثاني.
هل يمكن لمرشحة "التجمع الوطني" الفوز؟
على عكس انتخابات 2017، يمثل الرئيس المرشح إيمانويل ماكرون تيار اليمين الوسط عند العديد من الناخبين، ومن هنا جاء رفض العديد من الناخبين التقدميين واليساريين لمساعدة الرئيس المنتهية ولايته، لا سيما ضد مرشحة جعلت من المحاور اليسارية موضوع محور حملتها الانتخابية بما في ذلك شأن المعاشات التقاعدية وبالتالي من المرجح أن تخطف بعض ناخبي جان لوك ميلينشون خاصة في الجولة الثانية.
الحرب الروسية-الأوكرانية قلبت كل متغيرات الحملة الانتخابية والتى كادت أن تحسم المعركة لصالح الرئيس المنتهية ولايته الرئيس المرشح ماكرون، هذا يبقى تصور العديد من المحللين. لكن استمرار الحرب وتداعياتها الاقتصادية على القدرة الشرائية للناخب دفعت من جديد بمعادلة حسم الاقتراع ويقين فوز الرئيس ماكرون.
لذلك تراهن مارين لوبان على التوازن المنطقي في خطابها الدعائي للحملة وبرنامجها أمام الرأي العام والناخب الفرنسيين.
تسير حملتها بخطة والتي تبدو لحد ما مُحكمة، تحاول تجنب أخطاء حملتها لانتخابات 2017 ورداءة مُناظرتها مع مرشح حزب "الجمهورية إلى الأمام" في الدور الثاني، يريد فريق مرشحة حزب اليمين المتطرف أن يقلص الفجوة مرة أخرى في استطلاعات الرأي، لإعطاء الانطباع بأن حسم المعركة الانتخابية سيكون على جزئيات بسيطة، والتي لا تزال تروج لصالح الرئيس المرشح ماكرون كونه سيخرج ورقة الأمن القومي وحماية الفرنسيين من انعكاسات الحرب الروسية-الأوكرانية على أمن الفرنسيين.
تُعد انتخابات 10 و24 نيسان/أبريل فريدة من نوعها سواء من حيث الظروف الاجتماعية والصحية والأمنية على الصعيد الداخلي والإقليمي، كون الناخب الفرنسي لا يُزكي سِوى رئيسين بعهدة ثانية في تاريخ الجمهورية الخامسة عن طريق الاقتراع العام وهما: فرانسوا ميتران في عام 1988 وجاك شيراك في عام 2002 ضد جان ماري لوبان، منذ ذلك الحين وشبح "العهدة الوحيدة" يطارد رؤساء فرنسا المنتهية عهدتهم، يبدو أن الناخب الفرنسي كشف عن مزاجه في تحديه لطبقة سياسية باتت فاشلة وإعلام أضحى يفضل الإثارة على الخبر ونخبة فقدت مصداقيتها الفكرية في إدارة النقاش السياسي النبيل هذا بعد نهاية الصراع الأيديولوجي؛ بين اليمين واليسار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.