من عجائب الحقبة الحالية من تاريخ منطقتنا وشعوبها أن الدنيا برمتها والعالم بأكمله اتفق على تدمير المنطقة وأهلها تدميراً فتاكاً شاملاً بشتى أنواع الأسلحة التي تتوافر لديه، أكانت عسكرية أم غير العسكرية، مع العلم أن غير العسكرية أوجع وأوغل في الأثر.
غير أن هذا ليس غريباً، فمن يقرأ تاريخ القوم يرى عجباً، لكن العجب أنك ترى أهل المنطقة قد كفوا عدوهم مؤونة الحرب وتولوا هم تدمير أنفسهم وإحراق منطقتهم!
إن العجب العجاب أن ترانا اليوم نقطع أكفنا بأكفنا ونجدع أنوفنا بسيوفنا ونفقأ عيوننا بأصابعنا.
هبوط فكري سحيق
سيكتب التاريخ بعد حين من الزمان أن قوماً كانوا هنا أعانوا عدوهم على أنفسهم، بل وكفوه مؤونة الحرب عليهم ودمروا أنفسهم بأنفسهم.
إنك إذ تقلب نظرك يميناً وشمالاً في مجتمعنا اليوم تكاد لا تصدق ما ترى، وتظن للحظة أنك تعيش كابوساً أو لعلك تحيا خرافة مثل خرافة الغول.
هبوط فكري سحيق وسطحية مفرطة وسذاجة وسماجة في أكثر ما تراه وتسمعه، التفاهة التي تقدمها بعض المسلسلات، والتي صار موسمها هو شهر رمضان (!) لا توصف ولا تصدق.
لقد كنتَ فيما سبق تتغاضى أو تتجاهل سخافة بعض المؤلفين والمنتجين والمخرجين، لكنهم اليوم، ومنذ بضع سنين خلت، قد أضافوا إلى سخافاتهم وقاحة ممنهجة لها هدف واضح ومحدد.. ما هو؟
إنه تدمير المجتمع نيابة عن العدو، على سبيل المثال، تفتيت الأسر وتفكيك ما تبقى متماسكاً منها. الالتزام وتحمل المسؤولية والوفاء صارت مفاهيم تعيسة، تعيق التقدم، والمتمسكون بها متخلفون بدرجة أو بأخرى.
التفاهة التي تجدها في أغاني ومقاطع الفيديو خاصة المغنين الجدد يعجز لسان العرب والقاموس المحيط عن وصفها. بين "كيكي" و"حنان" وغيرها من تفاهات وسخافات تضيع أجيالنا وأولادنا وشباباً كالزهر، ومن ينجو من فتنة حنان يقع في شباك بعض البرامج الهابطة التي غزت الشاشات والمنصات ومواقع التواصل.
من مقاطع "سناب شات" و"إنستغرام" المصورة عديمة الفائدة، إلى برامج "الكاميرا الخفية" المفبركة، تتسارع عملية الهبوط في هاوية الضياع والتيه؛ إنك لا تكاد تفيق من بلاء تفاهة حتى تصطدم بما هو أشد وأدهى.
صناعة التفاهات
لقد ابتلينا في الآونة الأخيرة بـ"مشاهير" يجتهدون ليل نهار لصناعة التفاهات والسخافات، وقد ذاع صيت بعض هؤلاء الأشخاص ممن تفرغوا لتسطيح المواضيع والمفاهيم، في وقت كان يفترض فيه أن نصل إلى أعلى مراتب التقدم والتطور الفكري والحضاري في ظل التطور التكنولوجي والعلمي الذي شهدته البشرية مؤخراً.
إن الخلل الحقيقي لا يكمن في هؤلاء وحدهم، بل يكمن في الجمهور الذي يشجع ويدعم هذا النوع من الصناعة، ويحتضنها ويؤيدها ويروج لها، وبذلك يصبح لهؤلاء اليد الكبرى والحصة الأعظم في الانتشار، وما ذلك إلا بسبب الجهل وغياب الهدف فيما نريده من حياتنا.
إننا نتجه في، ظل هذه التفاهة، نحو مستنقع الجهل وهدم الحضارة وتقويض العلم والثقافة والأخلاق، مما قد يؤدي إلى انهيار المجتمع وجرف الجميع إلى مستنقع التفاهة والسخافات.
ويتحدث الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة" عن سيطرة التافهين على الفضاء العام، ويقول إن أسوأ ما يعملون أنهم يصنعون "النموذج" الذي ينبغي أن نحذو حذوه، هم متهمون بصناعة قواعد الرداءة والمعايير الهابطة، والسلوك المبتذل وتغييب الجودة والأداء الرفيع والتعامل القائم على الذوق والتهذيب، وكانت النتيجة أن "تسيدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية".
وقد وضع مالك بن نبي شروطاً لتحضير المجتمع، منها: انتصار عالم الأفكار السليمة على الأفكار الميتة والمشوشة. وضوح وأصالة المنهج المتبع في تنمية الفرد والجماعة.
وحتى يحقق المجتمع رقيه الحضاري، بحسب "بن نبي" لابد من توجيه الفكر والثقافة للإنسان المتحضر، وذلك بتشبيعه وريه بأبعادها الأربعة: الدين والخلق، والتذوق الجمالي، والعلم، والتمكن الصناعي والتكنولوجي. ثم توجيه قيم العمل الجماعي في الإنسان لصناعة الإنسان الكائن المتحضر. وأخيراً توجيه ووضوح سياسة المال لخدمة الكائن المتحضر.
وإننا إذا عرضنا حالنا اليوم على القواعد التي أشار إليها "بن نبي"، وما قاله "آلان دونو" سنجد الهوة الشاسعة والفجوة العميقة التي تفصلنا عن أصول الحضارة وأسسها، وسنحصد ولا بد نتائج هذا كله، نحن وأبناؤنا.
إننا إن أمعنا النظر في واقعنا اليوم سنجد وكأن ساعة زمننا قد توقفت بينما تسير أمم نحو التقدم والقمة بسرعة الضوء، وإن أبرز الأسباب التي تكرس التفاهة في مجتمعاتنا هي الجهل والأمية والانغلاق والتخلف، والتقليد الأعمى.
لقد صار لزاماً علينا أن ندخل عصر الحضارة واثقي الخُطى متسلحين بسلاح العلم والمعرفة ودرع الاستزادة من كل نافع ومفيد لنا ولأبنائنا ومجتمعاتنا وللإنسانية جمعاء.
وفي سبيل ذلك يجب أن تتكاتف القوى العاملة في كل الميادين بدءاً من الأسرة وصولاً إلى أعلى المناصب والوظائف، من محامين وقضاة وأدباء وأصحاب سلطة وأساتذة ومديري مدارس، كل على قدر طاقته، في طريقنا نحو نهضة وتقدم متأصلَين في ثقافتنا، تحت شعار "اقرأ".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.