سبقت مصر دول عديدة في بناء أو نقل عواصمها من مدينة لأخرى أو من منطقة جغرافية معينة إلى أخرى. وعادة ما يقع الانتقال أو تشييد العاصمة الإدارية الجديدة بسبب زيادة السكان وارتفاع معدلات التلوث أو الازدحام الخانق، أو حتى تخطي بعض الدول أزماتها الاقتصادية والتجارية والعسكرية، أو ليتخطى النظام الحاكم أزماته الحالية بالقفز نحو المستقبل.
عادة ما يتم بناء تلك المدن خلال مراحل انتقالية مهمة في تاريخ الدول، وقد تعلمنا في جغرافيا المدن من العالم الراحل جمال حمدان، والذي علّق على طرح فكرة بناء عاصمة جديدة في مصر في سبعينيات القرن المنصرم، أن العواصم لا تولد بين يوم وليلة، ولا تنشأ بأمرٍ عالٍ أو فرمان السلطة، إنما تنبثق لضرورات طبيعية، وإلا فشلت وأفلست.
أنواع العواصم
العواصم السياسية نوعان: عواصم طبيعية وعواصم اصطناعية.
الأولى تولد نتيجة نمو تاريخي وطبيعي، وتعد مركز النواة البشرية العمرانية في الدولة. أما العواصم الاصطناعية فهي عواصم ولدت الأمر المباشر، بلا جذور تاريخية أو سيادة اقتصادية، فهي مدينة سياسية بحتة، ومن ثم مختلة التوازن اقتصادياً وديموغرافياً.
وقد نجحت بعض الدول في بناء عواصم جديدة لها، وخير مثال البرازيل وماليزيا وكازاخستان وألمانيا وباكستان وكوت ديفوار ونيجيريا وتنزانيا، وهناك دول أخرى تفكر في نقل عواصمها، مثل إيران والمغرب وجنوب السودان، لكن البناء لا يعني النجاح بالضرورة، ولقد فشلت دول عديدة في عملية التحول تلك، لهيمنة المدينة الكبرى، العاصمة الطبيعية، على مقدرات الحياة، كما وقع في تنزانيا وكوت ديفوار.
في فصول وكليات الجغرافيا تدرس "الجغرافيا البشرية"، والتي ينبثق منها جغرافيا المدن، وفي أثناء وجودي بكلية الجغرافيا، طرحت فكرة العاصمة الجديدة، والتي قوبلت برفض حاسم من عديد من العلماء، وعلى رأسهم جمال حمدان. وكانت علة الرفض هي المواقع الصحراوية البكر التي أشير إليها في حينها، لتكون عاصمة جديدة لمصر، فمشروع العاصمة حينئذ سيبدأ من الصفر المطلق، وفي الفراغ المحض، الأمر الذي يتطلب أموالاً باهظة تنوء بها أغنى الدول.
وهذا ما جاء في تقرير لجنة المساعدات الأمريكية العام قبل الماضي، عندما أقرت خفض المساعدات لمصر بسبب مشاريعها الضخمة وتنوع مصادر تسليحها، وبناء عاصمة جديدة، في ظل أزمة طاحنة في العالم.
وهناك آراء اقتصادية معتبرة ترفض المشروع وتعتبره نوعاً من أعمال "البروباغاندا"، فبما صرف على العاصمة الإدارية الجديدة كان يمكن إعادة بناء وخلق الريف المصري خلقاً جديداً على أرفع مستويات التخطيط العمراني المعاصر.
كما يحاجج اقتصاديون بأن المشروع من الناحية التمويلية البحتة، فضلاً عن الناحية الطبيعية غير اقتصادي وغير مجد من البداية، وقد يتحول في النهاية إلى قطع للمضاربة العقارية الفاشلة الخاسرة، وأن مصر سائرة في الطريق الخطأ. فموارد البلاد تضيع هباءً، والعاصمة الإدارية الجديدة سوف ينتهي بها الحال كما بدأ، مجرد مشروع آخر يضاف إلى قائمة المدن الحفرية وأشباح المدن والعواصم الميتة التي يحفل بها التاريخ.
ولقد تم نقل عاصمة مصر عبر تاريخها إلى عشرة مواقع من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وما كانت تلبث أن تعود إلى رأس الدلتا، حتى استقرت في القاهرة. ومن خلال دراستي لجغرافيا المدن، كانت فلسفة جمال حمدان، مَن أعتبره معلمي، أن أقدم عواصم مصر القاهرة، وهي البيت الأمثل للعاصمة، ومشاكل القاهرة لن تختفي ببناء عاصمة جديدة!
المبرر الوحيد لبناء عاصمة إدارية جديدة هو العامل الأمني، خاصة بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، وخوف السلطات من الهبّات الشعبية، وأنها لن تكون عاصمة للمصريين بقدر ما ستكون عاصمة للدولة. ولكن ورغم نفي البعض لنظرية نقل العاصمة لأسباب أمنية، فإنها تبقى النظرية الأكثر صلابة وتماسكاً أمام الأطروحات الأخرى.
القاهرة أم العاصمة الإدارية الجديدة؟
بالعودة للعاصمة الحالية، فمشكلة القاهرة الكبرى أنها صارت المأزومة، وأزمتها الطاحنة أصبحت حلقة مفرغة، لا علاج لها إلا بالكسر في نقطة حرجة، أو بالبتر بعملية جراحية تخطيطية حازمة.
ورغم أن مصير القاهرة كعاصمة ما زال غامضاً، فإن التفكير في ترك عاصمة قائمة مسألة ليست بالهينة، وتحتاج إلى مراجعة لحسابات الربح والخسارة من كل النواحي. فموقع القاهرة الحالي هو المحصلة النهائية لآلاف السنين من التجربة والخطأ والنجاح والفشل لعملية الانتخاب الجغرافي.
السؤال المطروح الآن، هل تنجح عملية النقل وتظفر مصر بعاصمة جديدة بلا منغصات، أم أن العاصمة الجديدة لن تعدو كونها إضافة للمدن المتناثرة حول القاهرة الكبرى مثل مدن أكتوبر، بدر، مدينتي، الرحاب، الشروق، والمستقبل، وتهيمن القاهرة الكبرى على الحياة فيها كما حدث لتنزانيا وكوت ديفوار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.