حفظ وتلاوة القرآن ومسابقات وتكافل اجتماعي.. كيف قضيت رمضان في السجون المصرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/04/04 الساعة 12:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/04 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
عشرات الآلاف من المعتقلين داخل السجون المصرية بحسب منظمات حقوق الإنسان - مواقع التواصل

لم يطف في خاطري يوماً، كشخص غير مُتدين، عضو في إحدى أكبر الحركات العلمانية بمصر أن أجتمع تحت سقف واحد مع العديد من الأشخاص مُتعددي ومتفاوتي الثقافات والعادات والمذاهب والأفكار والبيئات.

وللأسف كان ذلك الاجتماع في جدران السجن. 

في السجن، هناك فرض أساسي، ألا وهو التعايش القسري مع الجميع.
يُقال إن السجن من أشد أنواع العذاب، وهو كذلك تماماً، فهو مقبرة حقيقية لأحياء من لحم ودم.

في خضم معارك حياتي اليومية، لم أكن أعي تماماً كيف يُمكن أن يحيا السجين في ظروف السجن المريرة، ولم أكن أفقه غير أن السجن عبارة عن علاقة بين السجين والسجان، ولكنه غير ذلك تماماً، فالحياة داخل السجن ما هي إلا صيرورة من التفاعل الاجتماعى بين السجناء وبعضهم بعضاً. ذلك الإيمان المتنامي دفعني إلى التلصص ومراقبة العلاقات الاجتماعية بين السجناء وبعضهم وبينهم وبين السجانين.

وقد قال ديستويفسكي في روايته الخالدة "ذكريات من منزل الأموات": هذه بيئتي الآن، هذا عالمي الآن، هذا هو العالم الذي لا أحب أن أعيش فيه، ولكن يجب عليّ أن أعيش فيه. 

نعم إنه عالم لا أحب أن أعيش فيه، ولكنه فُرض عليَّ ويجب أن أتعايش معه.

هذا هو أشد أنواع العذاب، أن تكون مجبراً على وجودك فى مكان لا تختاره، ليس ذلك فحسب، بل أيضاً لا تختار رفقتك، ولا يكون لك مساحة شخصية، ولا تتحكم فى تحركاتك، ولا أنفاسك. سأزيد على ذلك، إنك لا تتحكم في أفكارك!

السجن تجربة فريدة تحمل فى طياتها العديد من التفاصيل والمشاعر والعلاقات الاجتماعية. لكل سجين تجربته الوجدانية الخاصة والفريدة، من حيث إحساسه الداخلي بالتجربة، ونظرته المتعمقة والمتفحصة في أدق التفاصيل والظروف المُحيطة به، والاَخرين من حوله.

رمضان في السجن

وبمناسبة حلول شهر رمضان الكريم، وجدت أنه من المناسب تسليط الضوء على الشهر الكريم، ولكن من داخل جدران السجن الإسمنتية يقبع داخلها اَلاف من السجناء.

أسرد هذا الحديث في وقت يستعد فيه السجناء الآن بترتيب أوضاعهم المعيشية داخل الزنازين والعنابر من أجل سد جميع الاحتياجات اللازمة والضرورية لقضاء شهر رمضان.

وسأقوم باستعراض الأوجه المختلفة للطبائع الإنسانية والعلاقات الاجتماعية للسجناء، من مختلف التوجهات والمذاهب الفكرية والعقائدية، من خلال رؤية مُغايرة تتخللها تجربتي الوجدانية لهذا الشهر من خلال تواجدي القسري في بعض الأحيان مع المعتقلين من ذوي الخلفية الإسلامية.

السادس من يونيو/حزيران عام 2016، الموافق الأول من رمضان، هو أول رمضان أقضيه بالسجن، وكنت متواجداً برفقة زميل وصديق من منظمة "الاشتراكيين الثوريين"، ومعنا قلة من السجناء المُصنفين في قضايا ذات علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، وإن كانوا ليسوا أعضاء تنظيميين في الجماعة.

كنا جميعاً شباباً فى العقد الثالث من العُمر، إلا سجيناً لم يبلغ بعد التاسعة عشرة. وكانت زنزانتنا هادئة في مثل هذا التوقيت، فقد اتفقنا على أن تكون طبيعة العلاقة بيننا قائمة على احترام المساحة الشخصية.

في الأيام السابقة، كنت أرى حركة وتفاعلات مثيرة للانتباه، فقد كانت جميع الزنازين تقوم بتجهيز احتياجاتها من المؤن، وحصر الزنازين قليلة الزيارات من الأهالي ومحاولة توفير أوجه التكافل الاجتماعي بين جميع الزنازين فى العنبر.

فى ذلك الوقت، وجدت مسؤول إحدى الزنازين قادماً يطلب مقابلتي، ويطلب مني الانضمام متى شئت للاجتماع مع مسؤولي الزنازين الأخرى ومسؤول العنبر، وذلك ترتيباً لقدوم شهر رمضان.

قمت بتلبية الدعوة وإن كنا في زنزانتنا لم يكن يشغلنا تسيير أمورنا بطريقة الإدارة. وحين قابلتهم أنصت لما يسردونه من ترتيبات لشهر رمضان، حيث كان هذا الاجتماع يتخلل برنامجاً لشهر رمضان، من تقسيم الزيارات وسياسة التكافل داخل العنبر، والأمور الروحية من الشعائر الدينية وكذا عقد المسابقات للترويح عن النفس.

لم أكن أعلم ما ينبغي قوله، وكانوا ينظرون لي بين الفينة والأخرى، ويطلبون رأيي في مسائل تخص البرنامج. وكنت قد اصطحبت معي أحد السجناء من زنزانتي كي يُشارك معهم، وكنت مهتماً بالإنصات ومشاهدة ما يحدث، ولكن عند الإلحاح بتوجيه السؤال إليّ، أجبتهم أنني مؤمن تماماً بحرية الآخرين في ممارسة شعائرهم وأن زنزانتنا لها وضعية خاصة لوجود أفراد قد يكونون غير مؤمنين، وأفراد مؤمنين ولكنهم لا يمارسون الشعائر، وأفراد يقومون بممارسة شعائرهم بحرية واستمرارية، وفي مثل هذا التجمع ليس بمقدورنا فرض نظام ما غير احترام المساحة الشخصية وتقبل اختلاف الآخر.

حينها شاهدت الجميع يحدقون فيّ باستغراب وتحفز، فكسر مسؤول العنبر هذا التحفز بالتأكيد على احترام مختلف الاَراء والأفكار، وأن ذلك هو التعايش. كان مسؤول العنبر من الأعضاء التنظيميين لجماعة الإخوان المسلمين، وكان قادراً على استيعاب ما أقوله، وكنت مع ذلك محافظاً تماماً على رغبتي في مشاركتهم.

كان البرنامج المُعد لشهر رمضان يشتمل على تنظيم المُسابقات الرمضانية من حفظ وتلاوة القراَن الكريم وتنظيم الحصول على إجازات من المشايخ حفظة القراَن، وتنظيم الأوراد اليومية، والمسابقات الرياضية، وإعداد جدول بزيارات الأهالى قدر المُستطاع، وإعداد زينة شهر رمضان.

فى اليوم السابق لرمضان، كان السجناء يستقبلون التهنئة المُتبادلة، وتزينت أغلب الزنازين بزينة رمضان الورقية المصنوعة من قِبل بعض السجناء. وقام بعض السجناء من أصحاب الحرف بصنع فوانيس رمضان ومجسمات للكعبة من بعض خامات الكرتون، وسبح من الخرز وبيعها للسجناء بمقابل مادي زهيد. وجاء مسؤول العنبر لزيارتي وقدم لي هدية عبارة عن مصحف وسبحة من الخرز، فشكرته على هذه اللفتة الطيبة.

وذات يوم، قبل انتهاء وقت التريض وجدت سجيناً آخر من زنزانة مجاورة يُقدم لي بعض العصائر والمشروبات الرمضانية من العرقسوس والسوبيا والتمر الهندي معبأة في بعض الأكياس ومعها بعض الأكواب البلاستيكية.

وحين انتهى وقت التريض، وفى المساء، قام العديد من السجناء بالإنشاد من خلال فتحات الأبواب الحديدية، مُهنئين الجميع بشهر رمضان ومُذكرين البعض بصلاة التراويح والقيام، والدعاء لفك الكرب والخروج للحرية والدعاء على الظالمين.. وللحديث بقية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زين الناجي
ناشط سياسي مصري
تحميل المزيد