القناديل على المآذن ومدفع الإفطار حاضر.. “رمضان” موسم الاحتفال بانتصار الهُويّة الإسلامية بالبوسنة

عربي بوست
تم النشر: 2022/04/04 الساعة 11:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/04 الساعة 11:24 بتوقيت غرينتش
البوسنة والهرسك

"أشعلوا القنديل، اقترب وقت الإفطار."

كانت هذه مهمة أطفال الحي.

يحمل المؤذن القنديل ويصعد به إلى أعلى المئذنة، يضعه على شرفتها ويرفع الأذان.

ما أن يسمع الأطفال صوت "الله أكبر" حتى يبدأ سباقهم نحو البيوت لتناول الإفطار.

القناديل على المآذن في هذه البلاد الجبلية كانت إشارة لمن هم بعيدون عن المساجد بأن وقت الإفطار قد حان.

في نهايات الدولة العثمانية، انتقلت إلى سراييفو وبقية المدن الرئيسية في البلقان عادة جديدة، هي مدفع رمضان، الذي يُعلن بدء الشهر الفضيل، وعن لحظة الإفطار في كل يوم.

على التلة الصفراء المطلة على سراييفو، يتجمع الأطفال ويبدأون العد التنازلي بذكر أسماء مساجد المدينة الرئيسية: تساريفا (السلطانية)، بيغوفا (البيكية)، هندك (الخندق).

ذاكرة يتناقلها البوشناق جيلاً عن جيل منذ أيام العثمانيين، عندما لم تكن الحياة في أزقة سراييفو وزينيتسا وبيهاتش تختلف كثيراً عن تلك التي يعيشها المسلمون في قونيا ودمشق والقدس والقاهرة.

لكن بعض من كانوا صغاراً آنذاك شهدوا على اختزال ذلك المدفع تحولات عصفت ببلادهم خلال العقود اللاحقة.

أصبحت البوسنة والهرسك، بموجب معاهدة برلين لعام 1878، أرضاً عثمانية تديرها سلطة الاحتلال الإمبريالي النمساوي المجري، وبحلول عام 1908 سقطت سيادة الأستانة عليها تماماً، وأصبح البوشناق رسمياً رعايا فيينا وبودابيست، ما أشعل "الأزمة البوسنية"، التي مهّدت للحرب العالمية الأولى.

تأسس إبان الاحتلال النمساوي المجري كيان أطلق عليه اسم "الرابطة الإسلامية"، يجمع كبار العلماء لإدارة شؤون المسلمين الدينية، وتنظيمها بالتنسيق مع السلطات الجديدة.

آنذاك، سمح الاحتلال بمواصلة إطلاق مدفع رمضان في سراييفو، ولكن بشروط وقيود، أهمها حصر تنفيذ المهمة بشخص نمساوي، كان مسؤولاً عن إدارة استخدام المفرقعات.

أسفرت الحرب العالمية الأولى عن اندثار الإمبراطورية النمساوية المجرية، ونشوء دولة مستقلة في البلقان، أُطلق عليها اسم مملكة "السلوفينيين والكروات والصرب"، قبل أن يتغير اسمها إلى "يوغوسلافيا".

من اسمه، لم يكن للبوشناق المسلمين مكان في هذا الكيان الجديد، وتواصل نزيفهم الديمغرافي، هرباً من مستقبل لا يزداد إلا ظلمة.

على الفور، ناصبت الإدارة الجديدة مدفع رمضان العداء، وتذرعت بأن استخدامه خطير، ومكلف، كما زعمت أن صوت انفجاره لا يصل كل أرجاء سراييفو.

اقترح الحُكام الجدد استبدال المدفع بصفارة إنذار حديثة من ألمانيا، لكن قطاعاً واسعاً من علماء المسلمين عارضوا ذلك بشدة.

ليس المدفع جزءاً من الدين، لكن استبداله بصفارة تصدر صوتاً شبيهاً بأجراس الكنائس دق ناقوس خطر شديد في مجتمع كان يخشى على نفسه من الاندثار بالفعل.

ومن يدري، فقد يأتي الدور بعد ذلك على الأذان وتلاوة القرآن والصلاة.

العمل على دثر الإسلام في البلقان كان يجري بالفعل آنذاك، ونادراً ما يذكر التاريخ عمليات التطهير العرقي التي جرت بحق قرى وبلدات ومدن بأكملها خلال الحربين العالميتين، فضلاً عن الحصار السياسي والثقافي وعمليات الإفقار والتجهيل والتهجير.

شكل التمسك بمدفع رمضان رمزاً للمقاومة والإصرار على صيانة الهوية الإسلامية والنضال من أجل حقوق البوشناق، لكن كل ذلك انهار بعد رحيل النظام الملكي، خلال الحرب العالمية الثانية، ونشأة يوغوسلافيا الشيوعية الشمولية الملحدة، عام 1945.

توقف صوت مدفع رمضان.

ضجيج ذلك السكون، عشية أول أيام الصيام، هز كل بيت في سراييفو، إنه ضجيج الإعلان رسمياً عن عزل شعب كامل عن أمته وتاريخه وثقافته.

لم يعد المدفع وحده مُلاحقاً، بل وحتى الصيام نفسه.

ظهرت في بدايات الحكم الشيوعي حركة الشبان المسلمين، التي ناضلت ضد الشمولية ومن أجل حقوق البوشناق، لكنها سُحِقت بإعدامات ميدانية مروّعة، وانتقلت إلى العمل السريّ، حتى أعاد علي عزت بيجوفيتش نشاطها خلال الثمانينيات وصولاً إلى اندلاع حرب البوسنة وانتزاع الاستقلال أخيراً.

أخيراً، دوّى مدفع رمضان مجدداً في سماء سراييفو، مُعلنا انتصار المُناضلين من أجل البقاء، وتحطم الأسوار بين البوشناق وتاريخهم وثقافتهم.

بالتأكيد، هشّمت عقود القمع أواصر المسلمين البلقانيين مع عمقهم الحضاري، لكنهم على الأقل استعادوا مدفع التلة الصفراء، الذي يذكرهم في كل أمسية رمضانية بهويتهم الإسلامية.

عاد تلألؤ المآذن، وانسحاب الناس إلى مطاعم البلدة القديمة بطاولاتها الممتدة على الأرصفة والطرق، وقرقعة الملاعق والأطباق بعد قول المؤذن "الله أكبر".

عاد امتلاء المساجد في التراويح، وتلاوة "المُقابلة" (ختم القرآن) في المساجد، وقيام ليلة السابع والعشرين من رمضان.

يعتبر كثيرون أن في البلقان "إسلاماً خاصاً"، على اعتبار أن المسلمين هناك لم يعودوا يُشبهون إخوانهم في أماكن أخرى، ولكن ما هو الإسلام إن لم يكن نضالاً من أجل الحرية؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد العابد
صحفي وباحث
تحميل المزيد