إليها تهفو قلوبنا، وتشرد أفكارنا، لا تستغربوا، فعشقها قد سكن القلوب، وأرَّق العقول، نشتاق على ثراها سجدة وشهادة، فهي أنيسة الروح وحبيبة القلب التي نتمنى قربها، ورثناها حباً، ورمزاً للعزة والكرامة، ولن تسكن أرواحنا ومشاعرنا، حتى يأتينا رمضان ونحن معتكفون في رحابها، وهي ترفل بثياب الحرية متطهرة من دنس بني صهيون، وندعو أن يكون ذلك قريباً.
أن تكون مقدسياً فهذا سيف ذو حدين، يعطيك قوة ومكانة خاصة، وفي ذات الوقت يجرح يديك ويدميك، فمن الجهة الأولى أنت محظوظ لقربك من المسجد الأقصى، وقدرتك على الذهاب إليه والصلاة فيه في أي وقت ودون قيود، ووجودك في القدس بحد ذاته نعمة لا يدركها إلا من يتمناها ولا يستطيع بلوغها، فأنت في وطنك ووطن آبائك وأجدادك، وكل حجر من حجارتها يذكرك بأجزاء من حكاية التاريخ، ويشهد على بطولات الماضي، ومن جهة ثانية بقاؤك مهدد، كأهلك مثقل بالضرائب والديون لبلدية هدفها فقط الضغط عليك بكل ما تستطيع "لتطفيشك" من مدينتك المقدسة، وتستثنيك من الخدمات الضرورية التي تقدمها لمن هم سواك، فالمقدسي العربي، دائماً استثناء، ووافدون لقطاء يبذلون ما بوسعهم لزحزحتك من مكانك ليحتلوه وينسبوه لأنفسهم.
ويأتي رمضان هذا العام يحمل في طياته الكثير من الآمال والآلام لمدينة طال احتلالها واستُبيح عرضها، إلا أن شهر الخير والبركة يسبغ بركته وفرحته على القلوب، ويجدد روابط المحبة، واعداً بالفرج عما قريب بإذن الله.
في القدس لرمضان خصوصية لا تجد مثلها فيما سواها، فللقدس عادات وتقاليد متأصلة وقديمة قدم وجود الإسلام فيها، طقوس يتوارثها أهل المدينة ويحرصون على اتباعها بتفاصيلها، حتى غدت جزءاً لا يتجزأ من شهر الصيام، يفيض منها عبق التاريخ، وعطر الماضي، ومن خلالها يؤكد المقدسيون على هويتهم وعلى الهوية الإسلامية للمدينة، رغماً عن أنف الاحتلال الذي يبذل جهوداً جبارة لتهويدها، وإظهارها بطابع المدينة الصهيونية، عاصمة (إسرائيل).
ولوجود ثالث الحرمين الشريفين فيها، والذي يكون عادة مركزاً ومنطلقاً للعبادات والنشاطات في القدس، تُشد الرحال إليها بكثافة طوال أيام وليالي الشهر الكريم، وهناك من يعتكفون في المسجد الأقصى طوال شهر رمضان، أو في العشر الأواخر منه، ولا يغادرونه إلا ليلة العيد. وهم من تستعد المدينة لاستقبالهم جيداً، وتسهر على راحتهم وأمنهم.
تبدأ التحضيرات لاستقبال شهر رمضان في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، وفي تحدٍّ ظاهر للاحتلال تبدأ اللجان الشعبية للأحياء والحواري والبلدات المقدسية بتنظيف الشوارع والمداخل المؤدية للمسجد الأقصى، ثم ينتقلون لتزيين كل ركن في المدينة بحبال الزينة الملونة وفوانيس رمضان وكتابة عبارات الترحيب بالشهر الكريم وزوار المدينة بالأنوار الملونة، وتجتهد تلك اللجان في توفير الراحة والسلامة للصائمين، من مياه ومظلات لزوار المدينة.
وبمجرد ثبوت ولادة هلال رمضان، تهبّ الفرق الإنشادية والكشفية المقدسية للاحتفال بالقادم الجديد المحبب إلى القلوب، وذلك بتنظيم مسيرة باللباس الفلسطيني التقليدي، يجوبون بها شوارع وحارات البلدة القديمة، ينشدون الأناشيد الدينية والمدائح النبوية، والأغاني الرمضانية، ويضربون بالدفوف، ويُدخلون السرور إلى قلوب الناس.
وقبل رمضان بأيام تتزين المحلات التجارية، وتشهد أسواق البلدة القديمة في القدس (سوق خان الزيت، وسوق اللحامين، وسوق القطانين، وسوق العطارين، وسوق الدّباغة وسوق الواد) استعدادات مكثفة لاستقبال الشهر الكريم، وذلك بعرض بضائعها المختلفة، من المواد الغذائية والبهارات، والمكابيس والمخللات، والحلاوة المقدسية، والفواكه المجففة، والحلويات الرمضانية، خاصة القطايف، وفوانيس رمضان، وألعاب الأطفال، وتشهد الأسواق عادة حركة تجارية نشطة رغم تضييق الاحتلال وإغلاقه لكثير من المداخل ومنع الناس من عبورها، وافتعال المستوطنين الذي يستولون على البيوت في القدس للمشاكل والاحتكاكات.
للمسحراتي دور لا يُنسى في رمضان، فقد جرى العرف منذ القدم بأن يقوم المسحراتي بإيقاظ الناس في ليالي رمضان لتناول وجبة السحور، ويحمل طبلة يدق عليها ليوقظهم قبل صلاة الفجر، وعادة ما يكون الطبل مصحوباً ببعض الأناشيد الدينية والشعبية والرمضانية، ومنها "اصحى يا نايم وحِّد الدايم"، "قوموا لسحوركم إجا رمضان يزوركم"، ويرتدي المسحراتي عادة ملابس خاصة، ويؤدي بعض العروض الفنية.
في المسجد الأقصى تُنظم الإفطارات الرمضانية لضيوف المسجد، حيث يُقدم التمر والماء ووجبات الطعام والخبز لكل من يتواجد في المسجد، وتقوم لجان من المتطوعين أيضاً بتوزيع العصائر والشوربات الساخنة على الصائمين، بالإضافة إلى الشاي والقهوة.
وما إن يقترب أذان العشاء حتى تصطفَّ الصفوف في ساحات الحرم القدسي، استعداداً لأداء صلاة التراويح، التي يتناوب على الإمامة فيها مجموعة من الشيوخ والأئمة وحفظة القرآن الكريم، جميلي الأصوات، والحائزين على إجازات في تجويد القرآن وقراءاته.
ولا نستطيع مغادرة الحديث عن رمضان في القدس دون ذكر مدفع رمضان، الذي يقع في مقبرة باب الساهرة الإسلامية بشارع صلاح الدين، والذي يعد إيذاناً ببدء الشهر الفضيل، ويتكرر ضربه مرتين يومياً للإعلان عن الإمساك وعن الإفطار. وتتوارث عائلة صندوقة المقدسية الإشراف على ضربه والعناية به.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.