يأتي علينا رمضان في ألمانيا هذا العام بعد عامين من الإغلاق والإجراءات الاحترازية التي تأثر بها المسلمون هنا وحول العالم، حيث مُنعت صلاة التراويح وسُمح فقط بالصلوات الخمس وصلاة الجمعة بمسافات بينية بين المصلين، ومنع الأطفال الأقل من اثني عشر عاماً في معظم الولايات من أداء الصلوات وصلاة الجمعة، لم تكن هذه الإجراءات خاصة فقط بالمسلمين، ولكن بجميع دور العبادة من الديانات الأخرى بسبب تفشّي وباء كورونا.
(1)
مظاهر رمضان في ألمانيا
ورغم افتقادنا قضاء شهر رمضان مع عائلاتنا الكبيرة في أوطاننا الأصلية، فإن مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم تزيد هنا في ألمانيا عاماً بعد عام، بالطبع ليس كالاحتفالات الأخرى كاحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة وعيد الفصح، لكن من الملاحظ اهتمام الشركات والمحالّ التجارية بالمستهلكين المسلمين، واستهدافهم خلال شهرَيْ شعبان ورمضان، بتوفير منتجات غذائية من التمر والياميش والحلويات الشرقية.
(2)
حتى إن إحدى شركات الشوكولاتة المعروفة طرحت في السوق منتجات بأشكال رمضانية لجذب المستهلك المسلم، كما وفّرت إحدى سلاسل المحلات التجارية المشهورة "نتيجةَ رمضان" للأطفال، والتي تُشبه في فكرتها النتيجة الخاصة بالأطفال قبل أعياد الميلاد، أما محلات بيع الديكور والزينة فكثيراً ما تجد فيها ما يناسب الذوق الشرقي وأشكالاً مختلفة للهلال مثلاً.
وفي رأيي، فإن استهداف الشركات التجارية للمسلمين هو اعتراف ضمني بوجودهم، وأنهم فئة مؤثرة في المجتمع اقتصادياً.
(٣)
طقوس داخل البيت
تخبر ابني الصغيرَ زميلتُه في الفصل بأنها حصلت على هدية جميلة في عيد الميلاد، فيردّ عليها ابني بأنه يحصل على ثلاثين هدية جميلة ومتنوعة خلال شهر رمضان، منذ عدة سنوات أجهز دائماً هدايا صغيرة رمزية لأبنائي، يجدونها أمام باب البيت في رمضان، عند أذان المغرب، رغم بساطة الهدايا ومرور الأعوام وتغيّر المراحل العمرية للأولاد وتفكيرهم، فإنهم ما زالوا ينتظرون تلك الهدايا بفارغ الصبر طول العام، حتى إنهم يبدأون بحساب عدد الأيام المتبقية على رمضان قبل حلوله بثلاثة أشهر.
تعمَّدت خلال تلك السنوات أن أربط أبنائي بمشاعر الفرح والبهجة خلال هذا الشهر، خصوصاً مع غيابهم عن أجواء رمضان في بلد عربي أو مسلم.
تجتهد معظم الأمهات المسلمات هنا في تزيين البيت وتغيير الديكور وتعليق الزينة والأنوار، حتى إننا نبالغ في ذلك، فلا يشعر أولادنا بأن أعيادهم وشهورهم المقدسة أقل بهجة وأهمية من أعياد أقرانهم الذين يعتنقون ديانات أخرى؛ ذلك الاهتمام الملحوظ بشعيرة الصوم وشهر رمضان يُنمّي في أذهان أولادي الاعتزاز بدينهم، وأننا ربما نختلف مع من حولنا، فلكلٍّ دينه وشعائره، ما يجعلهم يتحدثون عن شهر رمضان وعن الصيام مع زملائهم دون حرج أو خوف.
من التحديات التي أواجهها هذا العام مع أبنائي أن هذا العام هو الأول الذي سيصومون فيه أثناء الدراسة، فقد بدأ ابني الكبير أول صيام كامل له أثناء حظر التجول بسبب تفشي الوباء خلال العامين الماضيين، فكان لا يرى أحداً يأكل أو يشرب، وأيضاً لم يكن يبذل مجهوداً كبيراً مع طول نهار الصيام في أوروبا، ليس الوحيد الذي سيصوم هذا العام، ففي فصله خمسة أطفال آخرون على الأقل سيصومون معه هذا العام.
أما أولادي الصغار، غير المُكلَّفين، فيصومون بضع ساعات قبل أذان المغرب للتعود على الصيام والمشاركة في فرحة الإفطار عند سماع أذان المغرب.
(٤)
ما هو رمضان؟
من الأشياء اللطيفة التي لاحظتها خلال هذا العام محاولة الكثير من الطلاب المسلمين شرح معنى الصيام لزملائهم في الفصل، وتقديم هدايا رمزية للأولاد بهذه المناسبة. تعرض أيضاً بعض الحضانات والمدارس في بعض الأماكن على أولياء الأمور المسلمين إعداد حلوى في عيد الفطر، الذي يُطلق عليه في ألمانيا عيد السكر.
هذا العام دعا أحد مساجد برلين الأطفالَ لمسيرة يحملون فيها الفوانيس، وهذا يشبه مسيرة للأطفال بالفوانيس في أحد الاحتفالات الألمانية، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، والتي يتذكرون فيها رجلاً طيباً يدعى سانت مارتين، كان يحمل فانوساً ويمر على الفقراء ليلاً لإعطائهم الطعام والملابس. وأرى أنه يوصل رسالة إيجابية أننا نتشابه في بعض مظاهر الاحتفال، ولكن لنا احتفالاتنا الخاصة أيضاً.
(٥)
في العام الماضي وهذا العام تزامن شهر رمضان مع الصوم الكبير للمسيحيين، اقترحت المعلمة في فصل ابني في حصة الأديان على الأولاد جميعهم أن يختار كل منهم عادة سيئة يريد التخلص منها، ليصوم عنها خلال فترة الصوم، طبّقنا هذا الأمر في المنزل العام الماضي، فمِن الأولاد مَن اختار التوقف عن استخدام الشاشات الإلكترونية خلال رمضان إلا للدراسة أو التواصل معي، ومنهم من قرر التوقف عن أكل السكريات والحلوى خلال الشهر.
على بساطة الأمر فإن الطفل يتعلم أيضاً القدرة على اتخاذ قرار التوقف عن العادات السيئة، وعندما ينجح في ذلك يثق بنفسه وقدرته على التخلي عما يؤذيه.
(٦)
أولادي وحكمة الصيام
عندما سألني ابني الأول محمد، قديماً، عن سبب الصيام، وكان عمره 6 سنوات تقريباً، أخبرته ببساطة ودون تفكير "حتى نشعر بالفقراء"، ظناً مني أنها إجابة مناسبة لعمره، ردَّ عليَّ وقتها: "ولماذا علينا أن نشعر بهم؟ يمكننا إعطاؤهم الطعام بدلاً من الصوم، أو يمكنهم اللجوء للمؤسسات الاجتماعية للحصول على مساعدة غذائية"، كان رده منطقياً للغاية، فصارت إجابتي الدائمة على السؤال "لماذا نصوم؟" هو أننا نُسلّم بأوامر الله، ما دمنا قد اخترنا أن نكون مسلمين، لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب ولا يحق لنا أن نفطر قبل أذان المغرب بدقائق، ظلّت إجابتي نفسها، هكذا أمرنا الله.
ثم بعد ذلك يمكننا مناقشة وسرد ما نتعلمه من الصيام، كالصبر وأثر الصيام على الروح وغيرها. ساعدت تلك الإجابة أولادي كثيراً في تعلم معنى التسليم لله في كل الأوامر والنواهي التي تبدو صعبة وغير منطقية لعقولهم، وصارت إجابتهم: "لأن الله يحب هذا أو لا يحب ذاك الفعل". فصاروا يرفضون بالتبعية تناول الطعام الذي به خنزير أو مشتقاته في الحلوى. ويجيبون ببساطة أنا مسلم، ولا آكل تلك الحلوى، وصاروا يسألون عن مكونات الطعام للتأكد من كونها حلالاً، فقط ابتغاء رضا الله.
نهايةً، فعلى الرغم من كوننا مغتربين فإننا يمكننا صنع أجواء رمضانية مختلفة كل عام، وإدخال الفرحة على قلوب أولادنا ليتعلقوا بشعائر الله، وليستطيعوا التمسك بدينهم وهويتهم المختلفة عمن حولهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.