بدت قمة "النقب" السداسية حافلة بالرموز والدلالات، حيث لم تترك إسرائيل شيئاً للصدفة، فرغم التحضير السريع للقمة فإن كل شيء بدا مبرمجاً ومحسوباً بدقة، بداية من طبيعة المشاركين والمدعوين إلى اختيار المكان بـ"كيبوتس سديه بوكير" بالنقب، جنوب فلسطين المحتلة، وحتى مائدة الطعام في العشاء الرسمي مساء الأحد، التي كانت كاشفة وفاضحة هي الأخرى للأسباب والأهداف الحقيقية للقاء.
القمة ضمّت وزراء خارجية إسرائيل وأمريكا، إضافة إلى أربعة وزراء خارجية عرب، هم: المصري سامح شكري، والإماراتي عبد الله بن زايد، والبحريني عبد اللطيف الزياني، والمغربي ناصر بوريطة.
ما وراء القمة
أتت القمة كمحاولة أمريكية لإرضاء المضيفة إسرائيل وحلفائها العرب القدامى والجدد، بعد اقتراب عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والذي يمثل خطوة إضافية باتجاه مواصلة الانكفاء الأمريكي عن المنطقة.
بدت القمة، أيضاً، مرتبطة كذلك بالغزو الروسي لأوكرانيا، رغم الموقف العربي المحايد شكلاً والأقرب إلى موسكو مضموناً والموقف الإسرائيلي المتلعثم المنافق والانتهازي، إلا أن ثمة خشية من تداعيات الأزمة على المنطقة، تحسباً لفعل مماثل من إيران -وحلفائها- ضد الدول الخليجية وعجز أمريكا عن حمايتهم، إضافة بالطبع إلى التداعيات الاقتصادية فيما يتعلق بارتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط والتفكير الأمريكي- الأوروبي في إيجاد بدائل لقطاع الطاقة الروسي.
وعموماً، توحي فكرة قمة "النقب" بنية واشنطن إيكال مهمة حماية وإدارة المنطقة إلى إسرائيل، ورغم تجاهل الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن لـ"صفقة القرن"، خاصة الرئيس السابق دونالد ترامب، فإنها عمدت بعد ذلك إلى دعم "الاتفاقيات الإبراهيمية" المنبثقة عنها، بما في ذلك دعم التطبيع المغربي والخليجي مع إسرائيل، باعتباره بديلاً أو ترضية لتل أبيب، مقابل عودتها (أي واشنطن) إلى الاتفاق النووي مع إيران.
الاتفاق النووي يمكن فهمه بحد ذاته كخطوة وتعبير عن مواصلة الانكفاء عن المناطق غير ذات الأهمية الاستراتيجية، خاصة بعد الانسحاب المهين من أفغانستان، وتفكير الحلفاء المحليين بالاعتماد على أنفسهم في ظل شعورهم بالخذلان الأمريكي.
إسرائيل استغلت ذلك على طريقتها الانتهازية، وسعت للعمل كوسيط بين أمريكا وحلفائها العرب، الدور الذي ترتضيه وتدعمه واشنطن كي تتحلل هي نفسها من الالتزامات تجاه المنطقة قدر الإمكان، كما لتهدئة حلفائها الغاضبين الخائفين والمرتعشين.
من هنا يمكن فهم حضور وزير الخارجية الأمريكي إلى جانب المطبعين الجدد الإمارات والبحرين والمغرب، إضافة إلى مصر وتجيير الفوائد السياسية والإعلامية لصالح الدولة العبرية بشكل أساسي مع ترضية معنوية للعرب.
هنا يجب الانتباه إلى أن مصر لم تكن مدعوة إلى القمة، لكن تم استدراك ذلك كما قالت السفيرة الإسرائيلية بالقاهرة "أميرة أورون"، كون حضورها مهماً وضرورياً كأكبر دولة عربية، وكي تقبل بالقيادة الإسرائيلية لملء الفراغ الناجم عن الانكفاء الأمريكي بحجة أو ذريعة مواجهة إيران. ولكي تقبل مصر بتلك القيادة الإسرائيلية، من رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت والرئيس عبد البلفتاح السيسي، في اجتماعهما بشرم الشيخ، الأسبوع الفائت، للتوسط لدى صندوق الدولي للحصول على قرض جديد، والتوسط لدى واشنطن لدعم النظام سياسياً ومالياً، وحتى لدى الهند للمساعدة في استيراد القمح لمصر بدلاً من روسيا وأوكرانيا.
مقابل الحضور المصري بدا لافتاً الغياب الأردني، رغم توجيه دعوة رسمية لوزير الخارجية أيمن الصفدي، إلا أن عَمان امتنعت عن تلبيتها لفهمها الجيد لخلفيات اللقاء الساعي إلى التطبيع على طريقة ترامب وحليفه رئيس الوزراء السابق نتنياهو، وبما يرتد سلباً على المصالح الأردنية تحديداً في السياق الفلسطيني حتى بالمعنى الضيق لفهم النظام الأردني لها.
فلسطينياً لم تتم دعوة وزير السلطة الفلسطينية رياض المالكي، في تجاهل تام للسلطة، حيث ترفض إسرائيل أي لقاءات ذات طابع سياسي معها، خاصة في ظل سعيها لتسييس القمة السداسية من ألفها إلى يائها، وتجاهل القضية الفلسطينية وفي أحسن الأحوال النظر إليها من منظور أمني واقتصادي حصراً. ورغم سماع تصريحات الوزير الأمريكي وحتى المصري عن المفاوضات والحل السياسي فإنها بدت دعائية ومعزولة تماماً عن سياق الحدث شكلاً ومضموناً.
دلالات ورمزيات
إضافة إلى ما سبق بدت الرموز والدلالات حاضرة في القمة، ومع حرج بعض وزراء الخارجية العرب تجاه عقدها بالقدس المحتلة، التي تعتبرها إسرائيل عاصمتها الأبدية، وعدم تحبيذ إسرائيل عقدها في تل أبيب، تم البحث عن مكان آخر يختزن أيضاً الرمزية والدلالة، وجرى العثور عليه في كيبوتس (مستوطنة زراعية وعسكرية) "سديه بوكير"، بالنقب جنوب فلسطين.
ذلك الكيبوتس كان قد نال شهرته من قضاء مؤسس الدولة العبرية ورئيس الوزراء الأول دافيد بن غوريون سنواته الأخيرة فيه، علماً أنه المسؤول المباشر عن المجازر والتهجير بحق الفلسطينيين في العام 1948، وصاحب فكرة ضرورة قبول العرب بالدولة العبرية، والإقرار ليس بوجودها، بل حقها في الوجود ككيان عادي وطبيعي في قلب العالم العربي، وجزء من نسيج المنطقة.
ما يعني أن القمة كانت تخليداً لذكراه وتمثيلاً لأفكاره، وتجسيداً للرواية الإسرائيلية كلها، بما في ذلك تبرير وشرعنة الجرائم الموصوفة بحق الشعب الفلسطيني.
الأمر لم يقتصر على دلالة المكان، وإنما شمل كذلك مائدة الطعام أيضاً التي بدت لافتة وحافلة بخيرات فلسطين والعرب المسلوبة، حيث ضمت شوربة الخرشوف "الأرضي الشوكي" المقدسي، ولحم الحمل من هضبة الجولان السورية، وأرز بن غوريون -هكذا هو اسمه- وهو طبق مسروق من المفتول "الكسكسي" الفلسطيني، والكعك المقدسي الشهير الذي يُباع في أزقة وحواري المدينة العتيقة، إضافة إلى خضراوات وفاكهة وأسماك من خيرات فلسطين المحتلة، في سرقة موصوفة للتاريخ والجغرافيا والتراث والثقافة والطعام.
موت السردية الجديدة
وفيما يخص النتائج فقد عجز المجتمعون حتى عن إصدار بيان ختامي، وموقف موحد ضد طهران، وسعي أمريكا لإخراج الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية، أو التعهد بضخ كميات إضافية من النفط العربي بالأسواق العالمية، لتعويض النقص في السوق بعد المقاطعة الغربية الواسعة للنفط الروسي.
لم يتم الحديث أيضاً عن تحالف بين المجتمعين، بل جرت الاستعانة باللغة الفضفاضة، وابتداع مصطلح هندسة الأمن الإقليمي، واعتبار اللقاء السداسي بمثابة منتدى سنوي يعقد بانتظام كجائزة ترضية وتكريس الشعور بتحقيق إنجاز ما.عموماً ورغم الصخب والأضواء الباهرة، ومع عدم التهوين من المشهد المخزي والمؤسف الذي يمكن من جهة أخرى وضعه في سياق الهروب إلى الأمام، إسرائيل لا تستطيع حتى لو أرادت حل مشاكل أنظمة الاستبداد والفساد البنيوية ولا تقدم لها سوى المسكنات.
بينما لخص وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد القصة كلها عندما تحدث عن تغيير السردية وبناء مستقبل مختلف، الأمر المستحيل إنجازه من قبل تحالف الطغاة والغزاة، في ظل الذاكرة الحية والعصية على النسيان للشعوب العربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.