الحرب بين روسيا وأوكرانيا مستمرة، ونقرأ كل ساعة تحليلات سياسية وعواجل إخبارية ورصداً للأجواء لحظة بلحظة، لكن الشيء الوحيد الحقيقي في الأمر هو الأزمة التي أصابت العالم، شبح الجوع الذي بدأ يهدد شرائح كبيرة من المجتمعات العالمية، والتكتلات الاقتصادية التي قد تنشأ عن تداعيات الحرب.
لن أتحدث عن حرب "العملة"، وهل سيصمد الدولار أمام القرارات الروسية والعكس صحيح، لكن سأرجع بكم للتاريخ وأحكي لكم قصة لطيفة، وسأترك لكم أعزائي القراء الحرية لاستخلاص العبرة والمضمون من هذه الحكاية.
ثورة الديسمبريين
في عام 1825 ميلادي، وبعد أن اعتلى نيقولا الأول عرش روسيا اندلع تمرُّد يقوده الليبراليون الروس، يطالبون فيه بتحديث روسيا لتلحق مؤسساتها المدنية والصناعية بباقي أوروبا. وبوحشية سحق القيصر نيقولا التمرد الذي عرف باسم "ثورة الديسمبريين"، وحكم بالإعدام على أحد القادة الليبراليين.
يوم الإعدام وقف القائد على خشبة الإعدام والحبل ملتفّ حول عنقه، وانفتحت خشبة الإعدام وتدلى هذا القائد، لكن لحظتها انقطع الحبل وأسقطه على الأرض.
في هذا الزمن كما تقول الروايات القديمة وكتب التاريخ، كانت أحداث من هذا النوع تعني تدخل العناية الإلهية وكانت العادة أن يتم العفو على الشخص الذي نجا بهذه الطريقة.
وحين وقف هذا القائد على قدميه مجروحاً متسخاً، لكن واثقاً من نجاته قال في الجموع التي كانت تراقب مشهد إعدامه بصوت جهوري، أرأيتم أن روسيا لا تقدر على أن تصنع حتى حبلاً جيداً.
وصلت الرسالة سريعاً إلى قصر القيصر بفشل عملية الشنق واغتاظ جداً من هذه المفاجأة، ولكنه بدأ في توقيع العفو وفقاً للقوانين المتبعة وقتها، وفجأة توقف القيصر عن التوقيع، وسأل: هل قال هذا القائد شيئاً بعد المعجزة التي حدثت له؟
فأجاب الرسول المكلف بنقل رسالة فشل إعدامه، نعم يا سيدي لقد قال إن في روسيا لا يعرفون أن يصنعوا شيئاً جيداً حتى لو كان مجرد حبل.
حين سمع القيصر كلام المتمرد قال: "علينا أن نثبت له عكس ما يقول، ومزَّق العفو، وفي اليوم التالي أعيد شنق القائد وفي هذه المرة لم ينقطع الحبل".
الدروس المستفادة
الدروس المستفادة من هذه الكلمات، ودعوني أسهل عليكم "التخمين" والمقصد من هذا العرض، وما يطلق عليه البعض "ما وراء السطور"، بسؤال بريء: هل ما فعلته أوكرانيا يطابق ما قاله القائد المتمرد الذي قاد الثورة ضد إمبراطور روسيا، حين أعربت عن رغبتها في الانضمام لحلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي؟
ألم يكن الدافع وراء التصريحات الأوكرانية العنترية هو إيمانها بأن روسيا لا تقدر على تحريك عساكرها ضدها؟
ألا ترسل الحرب الروسية على أوكرانيا رسالة مفادها أن الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي مرفوض شكلاً ومضموناً، وأن روسيا قادرة على الغزو والاحتلال ولا تزال تمتلك القوة الكافية لإخضاع أوكرانيا؟
درس آخر ربما يفيد الجميع في مختلف مناحي الحياة وهو أن الكلمات التي تخرج من فمك لا يمكنك أن تعيدها إليه، لذلك أطبق عليه بأحكام واحذر من السخرية والاستهزاء، فما تشعر به من نشوة قصيرة بقولك كلمات ساخرة، لا تساوي الثمن الذي قد تدفعه بعد ذلك.
وأخيراً، الحروب بين الدول رغم كل الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأطماع والمصالح، فيها دروس وعبر، لعل من أهمها كيف تستعين على قضاء خسارتك بالكتمان!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.