اختارت مجموعة القراءة المميزة التي أنتمي إليها هذا الشهر رواية "شيفرة بلال"، لم أكن متحمسة كثيراً ولم أعرف موضوعها، إلا أنني تطوعت لتصميم إعلان لمناقشة الرواية، فقررت أن أبحث وأقرأ نبذة عنها، أحسست بأنها لطيفة وربما جذابة، فما الذي سيربط بين بلال الحبشي (رضي الله عنه) وبلال النيويوركي؟!
بدأت بعدها في قراءة بداية رواية "شيفرة بلال" على أيام متقطعة ثم جذبتني فأنهيت معظمها في ثلاثة أيام، لقد أعجبتني بحق، لقد كانت أول مرة أقرأ رواية فيها مفارقات زمنية مختلفة وحيوات لأشخاص عدة دون أن أرتبك أو أملّ، أو أضيع في التفاصيل، لقد كان لها عقد ناظم واحد، يربطها بشكل متماسك، وإسقاطاتها كانت فريدة للغاية، لولا أن فيها بعض التكرار الذي إن تم حذفه ستكون أكثر بهاء وألقاً.
تحكي شيفرة بلال عن فتى في الثالثة عشرة من عمره سماه والده المسلم الهوية المتخبط السلوك بلالاً تيمناً بسيدنا بلال بن رباح الذي كان قد عُرف عنه في اليوم السابق لمولد ابنه فقط! اعتنت به أمه وحدها بعد تخلي سعيد زوجها عنهما، وفي غمرة سعيها لمستقبل أفضل لها ولابنها، تفاجأت بالسرطان يدق رأس فلذة كبدها بورم نادر.
ولتخفف هذه الأم المسكينة عن ولدها فقد نقلت له خبراً قد رأته وهو البدء بمشروع فيلم كرتوني عن سيدنا بلال بن رباح، واقترحت عليه مراسلة موقع الفيلم، لتبدأ بعدها سلسلة مراسلات بين كاتب السيناريو الملحد أمجد الحلواني الذي ينحدر من أبوين عربيين هجرا دينهما حتى قبيل وفاتهما، والذي سيكتشف هو أيضاً نفسه وحقيقة إلحاده من خلال تلك المراسلات التي كان موضوعها قصة حياة بلال بن رباح (رضي الله عنه).
يقوى الفتى بلال بن سعيد بقوة الصحابي بلال بن رباح، يتقمص آلامه ويقارن في نفسه بينهما في نواحٍ عديدة، يتقوى بندائه "أحد أحد"، يعرف الله ولو بشكل غير الإسلام الحقيقي الذي نعرفه ونعيش به، لكنه عرف الله على أية حال وهو طفل وقبيل موته، ولم يقتصر هذا الأثر عليه وحده، بل تعداه إلى أمه، فقويت ورأت انعكاسات أخرى لأمية بن خلف وخاصة في مدير المدرسة المترصد لها دائماً لأنها أمريكية سوداء جاءت من حي فقير ومليء بالعنف.
وتنتهي "شيفرة بلال" بالمنطق؛ فقد توفي بلال، ولكن بعد أن ترك أثراً ولو في آخر أيامه، وما أدهشني وفاجأني أني لم أبكِ كما توقعت، بل ظللت مصدومة هادئة ساكنة كما كانت "لاتيشا" أمه، وتوقعت أنها ربما تتزوج أمجد وينجبان بلالاً آخر يعيش معهما للنهاية!
ما راقني في الرواية هو سلاستها وخفتها ورقيها فلم يكن هناك إسفاف أبداً، لقد كانت الانعكاسات كثيرة في الرواية لكنها كانت مذهلة بحق، استمتعت بها واندهشت بها، فكم من أمية مستتر في حياتنا، كم من جاهلية تغمرنا اليوم، لقد أتى الإسلام ليعلن ألا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، فهل ترانا نفعل ذلك الآن؟!
لقد برزت جاهليتنا فصار التعيير بالمكان الذي جئت منه، بدوي أو ريفي أو مدني، وصار التعيير باللون أو الشكل وهو ما يسمى في عصرنا الحديث "تنمراً"، بل صار التعيير بالجنسيات، فهذا مصري وذلك صومالي أو يمني أو باكستاني، وكأن هذا حط من شأن المرء وقيمته!
وكم من أصنام قيّدتنا، فنحن مقيدون في نظام حياتي قد يفقدنا في كثير من الأحيان تذوق نعمة الحياة، في دوامة الدراسة ثم الزواج، وقد يتواجد العمل ثم الأولاد وحمل عبء دراستهم ثم زواجهم وهكذا وندور في طاحونة الحياة بضغط هائل وتسارع رهيب أصبح من سمات عصرنا تاركاً آثاراً نفسية رهيبة علينا!
ولا تقتصر الأصنام على هذا، بل تتعداها إلى التقاليد الاجتماعية البالية التي صارت مقدسة عند الكثيرين في مجتمعاتنا أكثر من تعاليم الإسلام نفسها، وأكثر مما جاء به رسول الله، فعمت مفاسد كثيرة وازدادت الجرائم والمظالم يوماً بعد يوم.
جولة في نفسيات أبطال الرواية
لقد سلطت "شيفرة بلال" كذلك الضوء على نفسيات أبطالها، فنفسية الكاتب أمجد الذي يكتشف هشاشة إلحاده وفراغه النفسي الذي ألجأه لعلاقة حب كان ضحية فيها، وكذلك نفسية المراهق بلال، ذلك الطفل الذي عانى من غياب والده واضطر لكتمان آلامه رأفة بأمه التي يقدر اجتهادها في تربيته، وكيف عانى من زملائه في الصف، وما هي آثار التنمر المر، التي باتت واضحة رأي العين، فكم من إنسان تمنى الموت أو أقدم عليه بسبب سخرية المحيطين به، وإذلالهم له، والأخبار تفاجئنا كل يوم بما لا يسر.
ثم نأتي لقضية مرض السرطان، وكيف يؤثر هذا المرض في صحة الأطفال وأهلهم، كيف يدمر هذا المرض جسداً صغيراً بالتدريج، وقد آلمني هذا بشدة، ثم كان شعور الأم الممزقة بين خوف على صغيرها وجزع من قرب موته، ومحاولة تماسك لأجل قضاء أيام جميلة مع ابنها قبل الموت المقترب والمرتقب، وهمتها العالية في التعامل بشكل عملي ومثمر مع أيام مرهقة كهذه، لدرجة تحفيز ابنها لعمل مدونة تكون إلهاماً للناس ونوراً بعد رحيله!
لقد تفاعلت بصدق مع مشاعر هذه الأم المكلومة، تخيلتها تخيلت جزَعها، بكاءها الصامت، صدماتها، هروعها إلى المشفى كلما أصاب ابنها مكروه، وخروجها من عملها في المدرسة بقلب مضطرب، غضبها كذلك من زوجها السابق واطمئنانها إلى الكاتب لأنها امتنت لمعاملته لصغيرها، لقد كان بلال بوصلتها كأي أم مخلصة وشغوفة بأطفالها.
مشاعر الصحابة
ثم كان ذلك البعد الذي لم يدر بخلدي يوماً مشاعر الصحابة التي ربما لم نفكر فيها قط، كيف شعر سيدنا بلال وهو لم يرَ والده، كيف غضب بينه وبين نفسه من التمييز بينه وبين السادة، ثم ما الذي جعله هو عبداً وجعلهم هم السادة، ما الذي ميزهم ليملكوه ويملكوا أمره؟ ولماذا أسلم بسرعة؟ ولماذا صمد في حر الصحراء يقول كلمتين فقط: "أحد أحد"، من أين استمد قوته؟ كيف كان شعوره يوم خرج من مكة؟ كيف كان شعوره عندما أذَّن؟ كيف تعامل مع إخوانه من صحابة رسول الله؟
كان ذلك مذهلاً كأننا نراه (رضي الله عنه)، حتى إني تمنيت لو أني تخيلت مشاعر كل واحد من أصحاب رسول الله في كل حياته وكيف أسلم وما مشاعره خلال كل الأحداث التي ذكرت في السيرة العطرة، وما بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، تمنيت أن أقف على مشاعرهم الإنسانية النبيلة، أن أقترب منهم لا كعظماء فحسب، بل كبشر مثلنا، يفكرون ويحزنون ويفرحون ويغضبون ويتمنون كأي فرد منا.
لا يمكنني في الختام إلا أن أسجل إعجابي المتتالي بهذه الرواية، لقد نجحت في رأيي في جوانب كثيرة وعالجت موضوعات عدة بمهارة وذكاء ودقة، وقد راقني أن كثيراً مما ورد من أحداث عن سيدنا بلال هي نصوص مقتبسة من مراجع إسلامية، كذلك سحرتني طريقة ربط حيوات عدة برابط خفي مبدع كربط حياة سيدنا بلال مع بطلنا الصغير بلال و"كونتا كنتي" بطل رواية الجذور، وكذلك المعلمة لاتيشا أم بلال، فهم جميعاً من أصول إفريقية عانوا من التمييز بناءً على العرق عبر أزمنة وظروف مختلفة.
أما الرابط بين عبدول وأمجد وسعيد فكانت الجذور الإسلامية الواهية، التي وإن كانت ضعيفة عند عبدول فإنها أضعف عند سعيد، ولكن أمجد أنقذه ربما تخصصه الذي مكنه من البحث بجدية في سيرة بلال بن رباح لأجل قضية يعيشها لأول مرة في حياته وهي بث الأمل وتحقيق أمنية طفل يوشك على الموت، هذه الرحلة التي قادته إلى بداية الإيمان، وقادت بلالاً الصغير لمحبة الله وتقبل الموت.
كانت هذه حكايتي مع "شيفرة بلال" المميزة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.