أن تكوني سيدة غَزِّيَّةً، يعني أن ينتمى كيانك إلى بقعة صغيرة على وجه الأرض، تلك البقعة التي نال اسمها من الشهرة نصيباً أكبر من حجمها آلاف المرات، هي تضاهي في نظري العاصمة باريس، مدينة الحب والجمال.. فلطالما نعتُّها في معظم كتاباتي بـ"المدينة البائسة"؛ لهول وحجم المشاكل التي تعيشها.
لكنها لا تزال مبتسمة قوية كسيِّدة جميلة في ريعان شبابها. لا يمنح جمالَ مدينتي أيُّ مَعلم كبرج إيفل وسط باريس، ولا يأتي جمالها من رائحة عطورٍ كتلك التي تشتهر باريس بصناعتها، ولا من جمال رفاهية الحياة هناك. الجمال في غزة يأتي من عبق هوائها ومن صمودها، ومن بحرها الثائر وشوارعها وأزقَّتها ونخيلها، وملامح الفقراء فيها الذين يتكبدون ألم الحياة، لكنهم يتحلَّون بالصبر والسلوان.
أن تكوني سيدة غَزِّيَّةً، يعني أن تكون أحلامك وطموحك في وادٍ، وأنت في وادٍ آخر؛ ألا يكون بين أحلامك وطموحك، وواقعك في مدينة غزة أيُّ قواسم مشتركة.. أن يكون بينهما اختلاف واضح كاختلاف المِلح والسكر، أو كخطين مستقيمين لا يلتقيان على نقطة.
ثمة فرق شاسع بين الحياة في مدينة غزة والأحلام والطموح، لكنه لا يمنع أي سيدة غزية من المحاولات المستمرة لفعل أي إنجاز، وتحقيق الأحلام من رحم المستحيل، فعناد السيدة الغزية أشبه بعناد غزة وصمودها أمام كل ما يواجهها من مشاكل؛ كالحصار، وإغلاق معابرها، وانقطاع التيار الكهربائي منذ سنوات، والحروب المتكررة، وفقدان الكثير من أبنائها، وحرمانها من أبسط حقوقها.
إلا أنها لا تزال جميلة وقوية؛ فهي ابنة تلك المدينة وتُشبهها بكل تفاصيلها. أن تكوني سيدة غزية، يعني أن تكوني سيدة حِملها ثقيل، لا يكاد يفارقها، تغلبه أحياناً، ويغلبها أحياناً أخرى، قد يُضعفها تارة، ولعله يقوِّيها تارة أخرى، تنساه، أو تتناساه، لا ترى فيه بعضها إلا نقصاً وتنغيصاً ومرارة، وترى أخريات فيه امتحاناً واصطفاء؛ بل تخبرك بعضهن عن حلاوة مخبَّأة تحت تلك المرارة.. إنه الألم، قرين الحياة، الذي نعرفه وننكره، ومن ذا الذي لم يذقه ويكتوِ بناره؟!
أن تكوني سيدة غزية، يعني أن تكوني سيدةً تدوِّن كل يوم أبسط حقوقها واحتياجاتها وهي أقصى طموحها، في الوقت الذى تدوِّن فيه نظيراتها من نساء الكون ما يرغبن في فعله من سفر ورفاهية واهتمام بجمالهن ورشاقتهن؛ أن تجاهدي وتعافري؛ وأن تربي جيلاً عظيماً ومثقفاً وحالماً؛ وتصنعي رجالاً من أحلك الظروف وقساوة الحياة.
النساء الغزِّيَّات هن نساء يخطئن ويتعثرن في طرقاتهن، ويجرحن ركبهن، ولكنهن يتدبرن في كل مرة- وعلى نحو ما- أمر النهوض.
النساء الغزيات هن نساء يخبِّئن الأسرار التي لا يَبُحْنَ بها ويختزلن الضجيج الذي لا ينصت إليه أحد، ويتوارين حينما يكنّ بين الأخريات طيفاً شاحباً لا يُرى. لكنها سرعان ما تتخطى كلَّ أمر صعب؛ لأنها سيدة لا تهزمها الحياة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.