هل تحمي تركيا مسلمي البوسنة من مأساة جديدة؟

عدد القراءات
711
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/25 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/25 الساعة 14:37 بتوقيت غرينتش
نساء يبكين على قبر قريب لهن قُتل في مذبحة سريبرينيتسا في البوسنة/ رويترز

صيف عام 1993، شهدت مدينة سيواس (سيفاس) وسط تركيا حادثة اهتزت البلاد على وقعها، وفتحت أعين صانعي القرار على خطورة انفجار احتقان إسلامي، تضخم بشكل كبير خلال العقدين السابقين تحديداً.

فرياح "الصحوة" التي هبّت على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، منذ نهاية السبعينيات، غرست نظاماً إسلامياً في إيران، و"جهاداً" في أفغانستان، وحركات تحرر إسلامية، مسلحة وسياسية، في سوريا وفلسطين والسودان والجزائر والشيشان والبوسنة والهرسك.

القطيعة الكاملة للمنظومة التركية مع الدين حدّت من قدرتها على الانحناء في وجه العاصفة، على غرار أنظمة مصر مثلاً، التي أخرجت إسلاميين من السجون وسمحت لهم بهامش من النشاط السياسي والاجتماعي، أو السعودية التي انخرطت بشكل كبير في دعم الجهاد الأفغاني.

وبينما يشاهد "أحفاد العثمانيين" كل تلك التفاعلات، دون أن تكون لهم مشاركة بارزة في أي من ساحاتها؛ تحولت الحالة الإسلامية في البلاد إلى برميل بارود.

واحدة من أهم إرهاصات الانفجار الكبير وقعت في سيواس، بعد صلاة الجمعة، الثاني من تموز/يوليو 1993، عندما خرج المصلّون للاحتجاج على زيارة كان يجريها إلى المدينة الكاتب اليساري المُلحد، عزيز نسين، مع مجموعة من رفاقه.

تحول الاحتجاج على زيارة "نسين" ورفاقه إلى فرصة للتعبير عن ذلك الاحتقان، بكل جوانبه، ورُفعت فيه شعارات لطالما خشي الناس من الهمس بها، قبل أن يتحول الغضب إلى العنف، وإحراق الفندق الذي استضاف الوفد اليساري، والتسبب بمقتل 37 شخصاً.

أثناء الاحتجاج، وعندما تدخلت قوات من الجيش لضبط الأوضاع، انفجر الحشد بصوت واحد: اذهبوا للقتال في البوسنة والهرسك.

ذلك الجرح الذي أدمى وجدان كل المسلمين حول العالم، كان له ألم خاص لدى أحفاد السلطان محمد الثاني، فاتح القسطنطينية والبوسنة.

أفرغ "السيواسيون" (نسبة إلى مدينة سيواس) غضبهم في ذلك اليوم، وعادوا إلى منازلهم، وبقيت "المجزرة" تتردد أصداؤها لبعض الوقت في الإعلام المحلي، على حساب ما يجري خارج تركيا.

بعد عامين، أسفرت الانتخابات البرلمانية عن وجه تركيا الجديد، فقد حقق حزب "الرفاه" الإسلامي بقيادة المرحوم نجم الدين أربكان المركز الأول، لأول مرة في تاريخه.

وجد قطاع من الأتراك، إذن، في صناديق الاقتراع سبيلاً للتعبير عن رفضهم معادلة الخضوع التام للانغلاق عن عالمهم الإسلامي، ولو أن الانتخابات جرت قبل توقيع اتفاقية "دايتون" للسلام في البوسنة، لربما انتزع أربكان عدداً أكبر من الأصوات.

اليوم، المعادلة مختلفة، فرفيق أربكان هو من يقود تركيا منذ عشرين عاماً.

يواجه الرئيس رجب طيب أردوغان، اليوم، اختباراً صعباً في المعادلة البلقانية، فهل تمكن بالفعل من نفض أسباب عجز بلاده عن التدخل لوقف حمام دم التسعينيات؟

لنضع الجانب الأيديولوجي- الخطابي جانباً؛ فتركيا لم تكن آنذاك لتتمكن على أية حال من فعل شيء يستحق الذكر في البوسنة والهرسك، بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي، ما يقيّد تحركاتها إلى حد كبير، بالإضافة بعدها الجغرافي النسبي، وهي أسباب لا تزال قائمة اليوم.

في المقابل، فإن تركيا تعيش اليوم ظروفاً اقتصادية أفضل، وتمتلك فعالية دبلوماسية غير مسبوقة في تاريخها الحديث، لكن الأكثر أهمية يكمن في خطواتها المهمة على مستوى الصناعات الدفاعية الخفيفة والحاسمة في آن معاً.

والحديث هنا بالتأكيد يتركز حول الطائرات المسيرة التي حسمت حرب "قره باغ" الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، وتلعب دوراً كبيراً في أوكرانيا اليوم.

كما أن نطاق الحرية المعقول الذي يتمتع به ناشطوها يوفر فرصة لخلق جسور إمداد "غير رسمية"، سواء للبوشناق في البوسنة والهرسك، أو الألبان في كوسوفو، لتجاوز المطبات الدبلوماسية أو قيود "الناتو" واتفاقية "دايتون".

قد تكون الإرادة في تركيا موجودة، وهي يجب أن تكون كذلك؛ لأن ردود الفعل على "العجز" ستجرف أي حكومة في أنقرة. ولكن في المقابل؛ هل الإرادة والفعالية نفسها موجودة في سراييفو؟

بالنظر إلى تجربة حرب البوسنة في النصف الأول من العقد التسعيني، فقد كانت هنالك قيادة صلبة للبوشناق، وعصبة من الشبان المتحفزين وطنياً ودينياً، الذين انطلقوا إلى أرجاء العالم الإسلامي لجمع المال والسلاح، والاستعداد للمعركة مسبقاً، رغم كل الأخطار المُحدقة، وبالحد الأدنى المتاح لهم.

كانت هنالك قراءة واضحة لما سيقع، قبل وقوعه، عام 1992، بالتوازي مع خطاب دبلوماسي متوازن، يدرك جيداً المعادلة الإقليمية والدولية.

ورغم كل ذلك، كان عليهم الانتظار طويلاً حتى تمكنوا من تحويل مسار المعركة، بعد اندلاعها، لصالحهم.

ولكن، أين هو علي عزت بيغوفيتش اليوم، وأين هم رفاقه؟ وماذا سيحدث إذا أشعل صرب البوسنة حرباً جديدة بتحريك من روسيا أو غيرها؟

يعاني البوشناق اليوم من انقسامات شديدة وتشرذم بين التيارات والأحزاب السياسية، وغياب للقيادة، ما يحرمهم من تشكيل نواة تتحرك في الظل، وفي منأى عن قيود "دايتون"، لخلق جسور إمداد خلفية.

ميزان القوة يميل لصالحهم، فهم أكثر عدداً، ويتمتعون بوضع اقتصادي أفضل من نظرائهم في إقليم صرب البوسنة، كما أن جاهزيتهم للقتال، بشكل عام، أعلى مما كان عليه الحال مطلع التسعينيات، وبات لديهم في النهاية الكثير ليدافعوا عنه، ولينطلقوا منه في المواجهة المقبلة.

لكن كل هذا لا يكفي، فصرب البوسنة سيحصلون على الإمداد العسكري الحاسم في النهاية من صربيا المجاورة، وسندخل في الدوامة ذاتها: يهاجم الصرب ويسفكون الدماء ويهجّرون المدنيين، ويستمر الأمر على هذا الحال عاماً أو عامين، إلى أن يتمكن البوشناق من قلب المعادلة، ثم يأتي الغرب بقيادة الولايات المتحدة ليحسم المعركة ويهندس "السلام" كما يحلو له.

يحتاج مسلمو البوسنة إلى "لجنة وطنية" جديدة كتلك التي أمر عزت بيغوفيتش بتأسيسها عام 1990، وشكلت نواة للجيش البوسني بعد اندلاع الحرب.

تحرك كهذا، بالإضافة إلى المكتسبات التي يحظى بها البوشناق بالفعل، سيجعل حسابات الصرب أكثر تعقيداً من البداية، بكل تأكيد.

يُظهر ساسة البوشناق التزاماً كبيراً بدايتون ومخرجاتها، مقابل تحرر الصرب المستمر من التزاماتهم بها، إلا أن التعويل على الظهور بصورة الطرف الذي يحترم المعاهدات ويلقي الكرة في ملعب "المجتمع الدولي" والغرب، لن يفيد في نهاية المطاف.

وبما أن صرب البوسنة قد أخذوا بالفعل خطوات عملية لتشكيل جيش خاص بهم، العام الماضي، فإن معادلة الرد يجب أن تختلف، والانتقال بها من خطابات تحميل الصرب والمجتمع الدولي المسؤولية، إلى الرد بالمثل، واتخاذ خطوات تصعيدية، والتحرر من قيود "دايتون"، تدريجياً.

هل يؤدي ذلك إلى إشعال الحرب ويكون المسلمون هُم المُلامين بذلك؟ لا بالتأكيد، فالصرب قطعوا بالفعل أشواطاً في التنكر لدايتون، والحرب في البوسنة ستقوم على أية حال عندما تريدها أطراف من خارج المنطقة؛ روسيا أو الولايات المتحدة، ولن يحدد موعدها الصرب ولا البوشناق، حتى إن هم أرادوها وسعوا إليها.

على تركيا أمام هذا المشهد تحفيز البوشناق على الوحدة ووضع الخلافات والتباينات جانباً، والتخلي عن دبلوماسية "الطرف المُلتزم المظلوم"، وإلا فإن ما سيجري هناك، إذا وقع، سيكون دموياً جداً، وستقف أنقرة عاجزة عن المساعدة من جهة، وعن تبرير عجزها للرأي العام المحلي.

أما عن كيف ومتى قد تبدأ الحرب، فإن الإجابة أصبحت لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قد يحرك صرب البوسنة في هذا الاتجاه، في إطار الصورة الكبيرة لمواجهته مع الغرب؛ حيث سيشكل حريق آخر في الخاصرة الجنوبية الشرقية لأوروبا فرصة لتعميق أزماتها، ولتشتيت شيء من الأنظار عن أوكرانيا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد العابد
صحفي وباحث
تحميل المزيد