سوف يعتقد بعض الناس أن هذا السؤال عبث من الهراء أو شيء متكرر في الآذان تقادمت عليه الأزمان، وسمعه الكثير منهم لدرجة أن استكرهته الآذان وأصبح طرحه نوعاً من تكرار المكرر!
ورغم تكرار التساؤل وانعدام الإجابات الشافية للصدور، سوف يتكرر طالما الإنسان موجود ضمن دائرة من التكرار، وواحد من مليارات البشرية التي يحكم بعضها بعضاً دون وضع أية مقاييس تحترم الآدمية كسابقة لا تتكرر يجب الحفاظ على قدسيتها.
ولسوف يتكرر التساؤل طالما ضمير الإنسانية والانتماء الآدمي موجودان، وتتكرر محاولة وضع مقاييس حفظ الإنسان من التحول إلى وسيلة دنيئة تستخدم دون إرادته، وضد بقائه كغاية يجب إسعادها ما أمكن بكل الوسائل تمييزاً وتقديساً لوجوده.
عندما تقام الحروب بين الطوائف أو القبائل وحتى بين الدول تشهد المعايير الإنسانية تزعزعاً لا مثيل له، وهذا أيضاً حدث يتكرر وموجود من آدم إلى وقتنا الحاضر كما تتكرر تساؤلات رفضه ومحاولة تنزيه البشرية من أدران الأنانية وعبثها.
فليس بغريب في الحروب هذا التنكر للآدمية الذي نراه، وهذه المكيافيللية المتولدة من غريزة حب البقاء والسطوة والسلطة؛ التي لا ترى الإنسان سوى عجلة لمركب تكون زيادة مدخراته أهم ممن يدخر من أجلهم من البشر!
وسوف تبقى غريزة الشهوة هذه موجودة وتزيد كلما ابتعدت الإنسانية عن وضع حد لجموحها المفرط، ولسيلان لعابها من أجل المال، والتوسع الهيمني دون مراعاة لأدنى مشكلة تصيب الإنسان الذي لم يرتكب من الذنوب سوى كونه الغير وليس نحن!
وليس بغريبٍ أيضاً أن تقام الحروب والمجازر البشرية لغرض البيع والشراء طالما الإنسان خرج عن كونه غاية يجب إدراكها، إلى وسيلة لا ضير في تركها في نصف الطريق لسكك القطار التجاري تسحقه وتنهش عظامه دون اكتراث؛ ففي كل ما سبق نستخلص كلمةً واحدةً ننطقها بمضضٍ وتعني حرفيًّا: انتحار الإنسانية بأكملها ككيان مقدس، وفاقد لجوهره الساطع وإحلال محله عجلات التجارة التي تكون المعايير فيها لمن يدفع أكثر؛ والسؤال الذي يباغتنا كلما فكرنا في وجودنا في هذا المستنقع الإنساني الضحل والخطر: إذا قتلنا الإنسانية في ضمير الإنسان؛ لمن سيجمع التجار أسلحتهم، ولمن سيبيعون صواريخهم التي هشمت ما بقي من الإنسانية في حروب شتى؟
والجواب عن هذا السؤال ليس بيسيرٍ، وربما يملك مُؤججو الحروب وتجارها بعضاً من إجاباته، فهم يعلمون بوجود السلاح قبل الحرب ويعلمون بصناعة الصواريخ، والذخائر المميتة التي تباع وتفتح لها أسواق ليست سوى مناطق فيها مناكفات بشرية وتأزمات اقتصادية، يتم البيع لها لتزيد الأرصدة كلما زاد زهق الأرواح.
ويعلم المشتري والبائع معاً أن مواقع البيع تلك ليست سوى أماكن يتم فيها خداع الناس والرقص احتفالاً باستبدال قيمها بالدولار.
ويعلم البائع والمشتري أيضاً الغرض من شراء المزيد من الآلات، والمعدات التكنولوجية التي ربما هي من سيحكم العالم بعد أن تفني البشرية نفسها بنفسها، وحتى في ذلك الحين لن ألوم الآلة التي ستحكم مصير الأرواح، والقنبلة التي ستنفجر وتترك وراءها أشلاءً بشرية لا تساوي فلساً واحداً في القيمة؛ إنما ألوم الإنسان الصانع الذي جعل كل شيء أغلى من أخيه، ومزق تربة وطنه لصنع حديد السلاح، وشجره لصنع مقابض يمسكها البائع لأصحاب الأسواق المميتة ويربح الأموال على حساب الآدمية!
وهنا يمكننا الإعلان عن موت الإنسانية، بوصفها وحدةً لها مصير مشترك ينبغي أن يكون فوق الاعتبارات التجارية، ونقدم اعتذارنا للطفولة عن إنجابها في ملاعب للتجارب النووية، ونعتذر أيضاً لكل من أوهمناهم بأن حقوقهم تقام لها المنظمات العالمية، وتنشر من أجلها ملايين الكتب في احترام إنسانية بكت في سوريا وليبيا وأوكرانيا، والكثير من الأماكن التي يتم إحراقها فيها بدل الغاز المتوقف أصلاً بسبب اشتعال آباره بقنابل قتلت ضمير البشرية قبل زهق أرواحها، واشترت بموجب ذلك الكثير والكثير جداً من دموع النفاق في المجالس العالمية بعد امتلاء جيوبهم بالكثير من الدولارات، التي كانت ثمن صمتٍ ما زلنا نقول عنه: أليس هذا بإعلان لموت الإنسانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.