الانتقام المؤجل.. هل ما زالت انتصارات المنتخب تبهج المصريين حقاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/03/24 الساعة 10:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/03 الساعة 07:39 بتوقيت غرينتش
خلال احتجاجات الربيع العربي في مصر عام 2011 ، هتفت الحشود "عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية"/ Getty

ساعات قليلة تفصلنا عن اللقاء الإفريقي المرتقب بين مصر والسنغال، والذي يكتسب أهميته من عدة مفارقات لا تقتصر على موضوع المنافسة، وهو بطاقة التأهل إلى كأس العالم القادم في قطر، لتشمل أسباباً أخرى، على غرار رغبة المنتخب المصري في رد هزيمته من "أسود التيرانغا" في مباراة النهائي القاري الأخير في الكاميرون، وأشكال المنافسة الثنائية المثيرة بين صلاح ومانيه، على مستوى الفرق والمنتخبات.

قبل 2011، كانت مباريات الفريق القومي لكرة القدم في مصر لوناً من ألوان اللُّحمة الاجتماعية الداخلية، خاصة في حال الانتصارات، والتي ارتبطت بذكريات منتخب "المعلم" حسن شحاتة والجيل الذهبي لمصر، كما أنها، تلك اللُّحمة، كانت تستخدم- على نحو مفهوم أحياناً وعلى نحو متطرف أحياناً أخرى، ولكنه يظل مفهوماً عندما يكون خارجياً- في المناوشات العابرة للحدود مع المنتخبات المنافسة لمصر، بالإضافة إلى محاولة توظيف تلك المشاهد الائتلافية سياسياً من النظام الحاكم حينها للإيحاء بالتفاف المصريين حول السلطة.

ولم لا؟ فالرياضة عامة، وكرة القدم خاصة، صارت أحد أشكال السياسة، محلياً وإقليمياً في الأعوام الأخيرة. فكل بطولة معتبرة تحصل دولة ما على شرف تنظيمها، تُضاف تلقائياً، في معظم البلاد، إلى سجل إنجازات النظام الحاكم في تلك الدولة، على أساس كونها تتويجاً لقدرته على تسويق البلاد خارجياً ودليلاً على التماسك الداخلي سياسياً واجتماعياً.. فمن سينظم بطولة معتبرة في دولة مضطربة؟ كما أن الدول الغنية، شرقاً وغرباً، باتت تتهافت على الاستثمار الخارجي في الرياضة وكرة القدم من أجل تبييض صورتها عالمياً.

من مباراة مصر والسنغال في نهائي كأس إفريقيا (رويترز)
من مباراة مصر والسنغال في نهائي كأس إفريقيا (رويترز)

وبالنسبة لنظام مبارك، الذي كانت نشرات أخبار إعلامه، الرسمي والخاص، لا تخلو يومياً، من طيف محبط من الإشعارات التي تعكس أزمة سياسية داخلية كبيرة، على غرار أخبار التوريث وتزوير الانتخابات وحوادث الطرق ومشاكل الثانوية العامة وتلال القمامة والعشوائيات وضحايا الهجرة غير الشرعية، بالنسبة لهكذا نظام، كان مشهد التفاف المصريين حول فريق الكرة القومي فرصة ثمينة وطوق نجاة لإخفاء تلك الأزمات العميقة، وهو أحد تمظهرات التوظيف الرياضي في خدمة السياسي مصرياً خلال تلك الحقبة.

أما الغريب في الحالة الكروية المصرية الحالية واللافت لكل مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي لتلك الأمة، أنّ الحشد المعنوي، السابق والتالي، لمباريات كرة القدم القومية لم يعد دافعاً للاستقطاب الخارجي المفهوم مع المنتخبات المنافسة أو شكلاً من أشكال اللُّحمة المحمودة داخلياً، ولو لدقائق معدودة، بين أبناء المجتمع؛ وإنما باتت تلك المباريات، بغض النظر عن نتائجها، أحد مسببات الاستقطاب الداخلي، ليس على أرضية: أهلي وزمالك، كما يمكن توقعه أيضاً، وإنما على أرضية أخطر هي السؤال عما إذا كان تشجيع فريق الكرة القومي شكلاً من أشكال الوطنية حقاً أم نوعاً من المزايدة السياسية التي لا ينبغي التورط فيها، وهل يمثل هؤلاء اللاعبون الأمة المصرية فعلاً في ظل تدخل النظام الحالي، والذي لا يمثل عموم المصريين، في كل تفصيلة من تفاصيل كرة القدم؟

الانتقام المؤجل.. من أغرق الشوارع بدماء الجماهير؟ 

في الفترة الانتقالية التالية لثورة يناير/كانون الثاني 2011 وعزل نظام مبارك الذي استمر في الحكم 30 عاماً، يبدو أن قراراً سياديّاً اتخذ من داخل أقبية الدولة العميقة في مصر، بأنّ يتم الانتقام المنظم من القيادات والكيانات التي شاركت في ذلك الحدث الاستثنائي تباعاً، والبداية الأعنف كانت بذبح الشباب الآمنين من روابط مشجعي "أولتراس أهلاوي" في مدينة بورسعيد.

مجموعات الأولتراس هي مجموعات من المراهقين والشباب الذكور المهووسين هوساً شديداً بكرة القدم والانتماء المجنون للفرق المحلية ذات الهويات الفرعية. وتحمل تلك الروابط طيفاً من المبادئ التي تتلاءم مع خصائصهم العمرية وجذور تلك الفكرة العابرة للحدود، مثل الانتماء للمدرج والمناوشات المستمرة مع الخصوم في الروابط المنافسة والنديَّة مع رجال الأمن داخل الحيز الرياضي، وقد ساهمت تلك المجموعات، على اختلاف انتماءاتها الفرعية، في إكساب يناير زخماً سلمياً مؤثراً بالألعاب النارية والرجولة في الاشتباكات مع قوات الأمن.

مجزرة بورسعيد واحدة من أسوأ 10 كوارث في تاريخ كرة القدم (رويترز)
مجزرة بورسعيد واحدة من أسوأ 10 كوارث في تاريخ كرة القدم (رويترز)

في المقابل، وعلى الرغم من التماسك النسبي لجهاز الشرطة في تلك الفترة بعد أكثر من عام على أحداث الثورة، ذلك التماسك الذي يمكنه، في الحد الأدنى من التنظيم، من تطويق موقع حيوي صغير المساحة في نطاق مغلق، ستاد بورسعيد، لتأمين حدث معروف موعده ومكانه مسبقاً، مباراة الأهلي والمصري، وعلى الرغم من وجود قوات الجيش بشكل مكثف في تلك المدينة لأغراض تأمين النطاق الجغرافي لقناة السويس وميناء بورسعيد، وحضور عدد كبير من قيادات الأمن المحلية في المدينة؛ وقعت مجزرة بورسعيد التي أودت حصراً بحياة أكثر من 70 مشجعاً من مشجعي "أولتراس" النادي الأهلي.

لمن لا يعلم كيف تسير الأمور في مصر، فإن محافظة بورسعيد هي محافظة محكمة إدارياً وجغرافيّاً إلى حد كبير، وهي المحافظة التي تفضل الدولة العميقة في مصر أن تستهل منها تجريب أي مشروع ذي طبيعة قومية نظراً لتلك الأسباب، وهو ما حدث عند الشروع في تطبيق منظومة التموين الذكية ومنظومة التأمين الصحي الجديدة.

كما أنّ جهاز المباحث الجنائية في وزارة الداخلية ومديريات الأمن يكون عادة لديه الحد الأساسي من الكفاءة والخبرة الميدانية لمعرفة وتقدير كل ما يجري على الأرض من النشاط غير المألوف عبر أذرعه من المخبرين والمسجلين والمواطنين الشرفاء، ولكن يبدو حينئذ أنّ قراراً اتخذ مفاده: غضوا الطرف عن تلك المقتلة التي ستمرر تحت شماعة العنف الرياضي بين الروابط الشبابية الفوضوية التي شاركت في الثورة. 

في مصر في ذلك التوقيت، يبدو أن الجميع كان على علم بأن هذا الحدث تحديداً يدشن تحولاً في علاقة الدولة العميقة بمكونات ثورة يناير، حتى إنّ المشير الراحل محمد حسين طنطاوي تساءل في كلمته التالية للحدث مباشرة عن دور الشعب في الحد من تلك الفوضى، "هو الشعب ساكت ليه؟!" بدلاً من الحديث عن المحاكمات العادلة والقرارات الاستثنائية وسرعة تسليم السلطة، وقد رفض أبو تريكة لقاء المشير حينها، ووصل الأمر بزياد العليمي أن سب طنطاوي على الهواء بعد تلك الحادثة.

وبنفس الطريقة تقريباً، طريقة القتل السلبي، ولكن في وقت لاحق قليلاً، جاء الدور على الكيان الجماهيري الثاني المقابل لجماهير النادي الأهلي، وهو رابطة "أولتراس وايت نايتس"، فيما عرف لاحقاً بمجزرة الدفاع الجوي، حيث قتل أكثر من 20 مشجعاً من جماهير الزمالك على أبواب استاد "الدفاع الجوي"، على مرأى ومسمع من رجال الشرطة، الذين نفذوا نبوءة رجل الدولة العميقة في إدارة الزمالك، مرتضى منصور، عدو الأولتراس الأول وعدو كل ما هو أخلاقي، بالتخلص من تلك الروابط وعقابها على دورها في ثورة يناير. 

من فبراير/شباط 2012 إلى نفس الشهر من عام 2015، كانت الدولة العميقة في مصر قد نجحت في تنفيذ مخطط تكشر من خلاله عن أنيابها تجاه كل تنظيم شارك في ثورة يناير بشكل عام، وتجاه الروابط الكروية الشبابية بشكل خاص، وقتلت حوالي 100 من أبرز شباب تلك الروابط، بخلاف المحبوسين على ذمة قضايا قتل زملائهم (!!) وغيرت كل معالم التشجيع الكروي في البلاد، بحيث يصبح اللون الأحمر- لأول مرة- دالاً على شيء آخر خلاف هيمنة النادي الأهلي على الكرة، ليصبح رمزاً لدماء مشجعي قطبي الكرة المصرية المهدورة على مذبح الملاعب أمام مرأى كل عناصر اللعبة!

الكرة ليست للجماهير

المفترض أن تكون الرياضة وكرة القدم، وهي أنشطة ترفيهية ناعمة في الأساس، في دولة بحجم مصر، علامة مميزة على ثراء المكون الاجتماعي. أمة ضخمة، ومجتمع شاب، ومزاج نفسي عام يميل إلى الترفيه المنضبط، الأقل صداماً مع "التابوهات" الكبرى. 

في نفس الوقت، فإنه لا مانع نظرياً من أن يكون للدولة أو لجهات خاصة دور ما تنظيمي أو ربحي إلى حد ما، فالمثاليّات الكاملة عن ترك كل تفاصيل ومراحل النشاط برمته في يد المجتمع، ربما لا تكون ملائمة لوضعنا السياسي. ومنتهى الأمل، أن يكون هناك نوع من التوازن بين كل أطراف المعادلة. الربح والترفيه والسلم الاجتماعي وتوسيع دوائر النشاط على نحو عادل. 

قبل نحو عقد من الآن أو يزيد قليلاً، كان النشاط الكروي في مصر شكلاً من أشكال عدم العدالة المهيمنة على معظم الأنشطة الإنسانية في المجتمع. ظلم ممنهج على أساس الدين والجغرافيا والطبقة. فيندر أن تجد لاعباً مسيحياً، كما تتركز الأموال والدعاية في المركز القاهري المديني، وأخذت أندية الشركات، والتي معظمها كيانات رسمية وشبه رسمية، مثل أندية الجيش والشرطة والبترول، تحل شيئاً فشيئاً محل الأندية الشعبية المهمشة أصلاً. 

جماهير مصرية تتابع مباراة لمنتخبها القومي

ما استجد في نموذج دولة الثالث من يوليو/تموز 2013، أن النظام الحاكم والكيانات المقربة منه، والتي تعد واجهات صورية يمكن استبدالها في الغالب، باتت تهيمن، حقيقة لا مجازاً، على كل مراحل وتفاصيل النشاط الكروي في مصر، ليصبح شكل المنظومة عبارة عن مجموعة خيوط مُنسدلة من نقطة مركزية واحدة، هي السياسي الذي أسس نموذجاً للحكم بالغ التطرُّف والاحتكار والاستحواذ والإقصاء. 

فعندما تبحث عمن يهيمن على مجال الرعاية في كرة القدم، ستجد أن خلفه شركة تنتهي إدارتها لدى أجهزة الأمن السياسي، وعندما تتساءل عمن يقوم بإدارة النقل التلفزيوني ستجد محطة رئيسية تأخذك إلى نفس النتيجة، وهو ما ينطبق أيضاً على بيع التذاكر. برزنتيشن وأون وتذكرتي، كلها كيانات تصب لدى مجموعة الضباط  ورجال الأعمال الذين يدينون بالولاء لقيم نظام الثالث من يوليو/تموز. وهو، وضع أكثر شمولاً وإحكاماً وربحاً، عن الحال إبان دولة مبارك المسكينة ونموذجها الكروي.

كذلك، في شهر رمضان الماضي، فوجئ المشاهد المصري بإعلانات تتحدث عن شكل جديد من أشكال الاستثمار في الترفيه الموجه للطبقة الوسطى العليا، وهو سلسلة أندية، ستغزو ربوع مصر، بأسعار تنافسية قياساً على أسعار اشتراكات أندية الصف الأول والصفوة، وعندما تبحث قليلاً وراء الفكرة والمشروع، تجدها نموذجاً سلطويّاً رأسماليّاً برعاية النظام الحاكم الذي يلقي بخيوطه، رأسياً وأفقياً، لإحكام السيطرة، بشكل غير مسبوق، على كل أنشطة المجتمع، بما في ذلك الأنشطة الترفيهية. 

ولما سمحت دولة يوليو/تموز 2013، لجهة خارجية بالدخول والاستثمار- إن جاز القول- في مجال كرة القدم؛ فإن تلك الجهة، التي أحدثت شرخاً كبيراً في ثقة المجتمع بنزاهة كل أركان اللعبة في مصر، وأشاعت حالة من الإحساس بالدونية والقابليّة للشراء لدى المصريين، كانت مشروعاً سعوديّاً إماراتياً، وهو نادي الأهرام. ففي نظر النظام الحاكم، لا يهم تأثير ذلك النفوذ الخارجي على تماسك المجتمع الكروي المصري ولا على سلامة هذا القطاع ولا على صورة المصريين الذاتية لدى أنفسهم وأمام الآخرين، وإنما ما يهم فقط هو: الربح وإرضاء بائع "الرز" الخليجي، بغض النظر عن التكلفة.

حتى التشجيع، فقد رأى نظام الثالث من يوليو العصابي، أن المدرجات لا يمكن أن تكون مكاناً للجماهير العادية مجدداً، كما كان المصريون معتادين قبل هذا النظام. شباب وفتيات، أولتراس وجمهور عادي، أغنياء وفقراء يمكنهم دخول المدرج وممارسة نوع من التنفيس الصحي. أما الآن، فإما المنع التام، أو تفصيل نظام انتقائي يستهدف إدخال فئة معينة من الجمهور، القادر مادياً والمنخرط في مشاريع النظام السياسي الشبابية، كما كانت الحال مؤخراً في رحلة تشجيع المنتخب القومي في الكاميرون، والتي اقتصرت على رجال حزب "مستقبل وطن" وشباب التنسيقية السياسية. 

ومنذ حوالي 3 أعوام، باتت مباريات القمة المصرية محليا، الأهلي والزمالك، سبباً في الحشد الأمني وحملات التفتيش والذعر العام والمقاهي التي تفتح خلسة لتحقيق بعض المال الزائد في تلك المناسبات، بعيداً عن أعين النظام المتوجس من احتمال تحول تلك التجمعات الكروية إلى شرارة موجة غضب سياسي جديدة ضده لا يمكنه احتواؤها. فلا حضور في الملعب ولا في الشارع. 

وبالتالي، ازداد الوضع سوءاً وتردياً بشكل يفوق نظيره السابق في حقبة مبارك. فلا الفريق القومي هو الفريق القومي، ولا الجماهير مرحب بها، وعناصر اللعبة كلها في يد النظام الحاكم وتحالفاته الداخلية والخارجية. حتى علم "فلسطين" لا يمكن لمشجع مصري شاب عادي، غير منتم، أن يرفعه في مدرج مصري على أرض مصرية في وسط جمهور مصري، دون أن يتعرض للعقوبة. في ظل النظام الحالي، تماماً كما تكثف في مشهد "موكب المومياوات الملكية" الأيقونيِّ، لا مجال للجمهور العادي، فهذا النظام لا يمكنه أن يواجه الجماهير بشكل طبيعي أو يسمح بتنظيمهم كما يحدث في أي مكان أخر في العالم.

أكثر من مجرد توظيف

خلط الرياضي بالسياسيّ أمر مفهوم وفيه بعض المشروعية، ولكن النظام المصري الحالي، وهو نظامٌ مأزومٌ، استثنائي وطارئٌ، لا بضاعة لديه غير التخويف والابتزاز بالاقتتال المنتظر بعضه والذي سيكون هو نفسه شريكاً فيه قطعاً من باب: "فيها لأخفيها" كما يقول المثل المصري، هذا النظام لا ينظر إلى مجمل الأنشطة الاجتماعية إلا من عدسة: الأمن والربح فقط، بما في ذلك كرة القدم، التي هي بحكم الطبيعة والتصور، أرحب من ذلك.

في سبتمبر/أيلول 2019 قام هذا النظام بحشد كل من له حيثية ما ودلال على المصريين، كي يحذرهم، بلغة مذعورة، من عواقب الاستجابة والتفاعل الإيجابي مع دعوات المقاول المنشق عن طلائع النظام، محمد علي، وفي غمرة استعانته بعدد كبير من الممثلين والمطربين، لجأ إلى والد النجم المصري المحترف في الخارج محمد صلاح، لكي يصور مقطعاً داعماً لزعيم تلك الفئة الحاكمة، وطبعاً معروف كيف ينتزع النظام تلك "الاعترافات"، فإن كان صلاح مرموقاً في الخارج، فيمكن التلويح دائماً بورقة موقفه التجنيديّ في الداخل، وربما مستقبل وأمان أسرته.

الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي/ رويترز
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي/ رويترز

أحد أشكال ذلك التوظيف المُتعسف لكرة القدم من قبل رجال هذا النظام سياسياً، كان الحشد المعنوي الرسمي الذي قام به وزير الرياضة أشرف صبحي، بشكل مقصود، لتحفيز اللاعبين لمباراة السنغال القادمة، بعد الهزيمة في الكاميرون، عبر استعارة ذكرى 25 يناير/كانون الثاني 2011 باعتبارها "نكسة" تشبه الهزيمة في النهائي، والتي يجب تعويضها بـ "ريمونتادا" تشبه ما فعله السيسي في 30 يونيو/حزيران 2013، حينما أعاد الوطن إلى مساره الصحيح.. أي عبث هذا؟ 

وبالطبع، لاعبو اليوم بتركيبتهم الحالية لا حول لهم ولا قوة، وأبعد ما يكونون، لأسباب كثيرة، عن اتخاذ أي موقف جاد، وجميعهم يتذكرون ما حدث لكل من حاول التعبير ولو بشكل ناعم عن مواقفه التي لا يمكن القول إنها كانت سياسية بقدر ما هي كانت أخلاقية، فلقد أقصي أبو تريكة وأحمد عبد الظاهر والميرغني من المشهد الرياضي وباتوا من المغضوب عليهم بعد مواقفهم إزاء الأوضاع المتردية داخلياً، وفي بطولة إفريقيا 2019 في مصر، أوردت مصادر موثوقة أن السيسي طلب بنفسه من صلاح أن يبتعد عن أبو تريكة قليلاً خلال أحد لقاءاته بالمنتخب لرفع الروح المعنوية.

وبسبب هذا التوظيف والنظرة الرسمية لكرة القدم حصراً باعتبارها أداة سياسية، لا بالمعنى الوطني بقدر ما هي مطية للسياسيِّ- الذي لا يمثل مجتمعه- لإلهاء الناس مؤقتاً عن مشاكلهم اليومية، وهو ما وصل إلى المصريين، باتت شرائح معتبرة من المواطنين تعبر، على مواقع التواصل الاجتماعي، صراحة عن خوفها من العواقب المحتملة لصعود المنتخب لكأس العالم، إما بترويجه دليلاً على توحد المجتمع الذي سيخرج منتشياً للاحتفال حول النظام، أو باستغلال الفرحة لتمرير مزيد من القرارات الاقتصادية الجبائية.. فهل بات المصريون يودون لو تعثر المنتخب خوفاً من هذا التوظيف الفجّ؟

ما العمل؟ 

لا تقدم تلك المقالة حلاً لتلك المشكلة العويصة؛ فكلُّ انخراط من عموم المصريين في موكب كرة القدم بشكلها الحالي، سيقابل من النظام بتوظيف سياسي يقول من خلاله، ولو لدقائق، إن الوضع العام جيد وتحت السيطرة وعلى ما يرام، وذلك خلافاً للحقيقة، وفي نفس الوقت، فإن كل صدود عن تشجيع الفريق القومي، مع كونه دالاً على أمور كثيرة تخص الوضع الاجتماعي والسياسي في مصر، فإنه أيضاً سيقابل من النظام الحالي باستثمار سياسي على طريقة: انظروا إن همّ المعارضين هو الشماتة في كل ما هو مصري! 

وبشكل جزئي، ساهمت أيضاً تركيبة هذا الجيل للمنتخب القومي في الأعوام الأخيرة بعد يوليو/تموز 2013 في نفور شرائح معتبرة من المصريين من تشجيعه، ولنتذكر جميعاً موقف هؤلاء اللاعبين، وبعضهم لا يزال جزءاً من الفريق، خلال بطولة إفريقيا التي أقيمت في مصر وخرج المنتخب منها مهزوماً على أرضه من الدور الإقصائيّ الأول أمام جنوب إفريقيا. الاشتباك مع الجماهير وتحدي المزاج العام بشكل غير مألوف في الملاعب المصرية، نصرة لزميلهم سيئ السلوك، عمرو وردة.

ساهمت تلك العوامل، والتي يقع معظمها على عاتق النظام السياسي، غير الطبيعي، المسيطر على شؤون الحكم في مصر، في خلق حالة أشبه ما يعرف في علم النفس بـ "التنافر المعرفي" لدى عموم المصريين إزاء نتائج المنتخب، فباتت شريحة غير بسيطة من المصريين، في أقل تقدير، تخشى عواقب انتصارات هذا الجيل، وفي نفس الوقت تتساءل: كيف وصلنا إلى تلك الحالة؟ هل من المعقول أننا بتنا نريد الخسارة لفريق بلادنا؟ أم أن هذا ليس فريق بلادنا؟ وكيف يمكننا التفريق في ظل استغلال النظام كل شاردة سياسياً؟ 

تساعد الحلول السياسية ومفاهيم العدالة الاجتماعية وسيادة القانون والمصلحة العامة إلى حد كبير في تجنيب المجتمعات تلك المشاكل العميقة، والمصريون أمة ترضى بالحد الأساسي من الكرامة والعدالة والاحترام ولا تتطلع إلى شيء نادر، فأقصى ما يطمحون إليه وصمام أمان المجتمعات فعلياً، عوضاً عن كنس المشكلات أسفل السجاد، هو أن يكون هناك احترام حقيقي من السلطة تجاههم، لا التعامل معهم كرعاع مستباحين كما يحدث الآن.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد