تنتشر في الأجواء الأوروبية الشرقية حالياً أطروحة، مفادها أن بإمكان روسيا الإفلات من العقوبات الاقتصادية الموقّعة عليها بعد غزو أوكرانيا، باستخدام العملات، لكن هل هذه الأطروحة واقعية وقابلة للتنفيذ؟
حصار مشفر
تسببت العقوبات الاقتصادية في انهيار كبير للروبل، العملة الروسية، وخلال الأيام الأولى من الغزو فقد الروبل ما يقرب من نصف قيمته، حيث ارتفع سعر صرف الدولار أمام الروبل من 84 روبل للدولار الواحد إلى 154 روبل للدولار بحلول 7 مارس/آذار.
وشمل وابل العقوبات منع الولايات المتحدة البنك المركزي الروسي من التعامل بالدولار، والحد من استخدام روسيا لـ630 مليار دولار هي احتياطياتها من النقد الأجنبي، وجمّدت سويسرا أصولاً مالية روسية، وتم عزل سبعة بنوك روسية عن نظام "سويفت".
لكن إن هندسة مجموعة واسعة النطاق من العقوبات شيء، وضمان تطبيقها بإحكام شيء آخر، ففي الوقت الذي تواجه فيه موسكو شبح الانهيار المالي، تتنامى التكهنات بشأن ما إذا كان الأفراد والشركات الروسية سيتجهون إلى العملات المشفرة لمراوغة العقوبات.
كما أن معظم بورصات العالم تتخذ "بينانس"، أكبر بورصة عملات رقمية في العالم، تتخذ خطوات ضد أولئك الذين تم فرض عقوبات عليهم من طرف أمريكا وأوروبا الغربية. ومع ذلك، فإن "بينانس" لن تصل إلى حد فرض حظر شامل على المستخدمين الروس، وهي خطوة من شأنها أن تتعارض مع روح العملات الرقمية، التي لطالما تم الدفاع عنها كوسيلة للتحايل على الرقابة التي يمكن للبنوك والحكومات فرضها.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، أعلنت "بينانس" عن تبرع بقيمة 10 ملايين دولار للمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الربحية في أوكرانيا.
وعلى نفس المنوال، أكدت بورصات العملات المشفرة الكبرى والشركات مثل "كوين بيس" و"كراكن" وغيرهما، أنها ستلتزم بالعقوبات الموقعة على شخصيات روسية، وستمنع تهرب أموالهم إلى منصاتها، لكن رفضت ذات المنصات دعوات لتجميد أصول المستخدمين الروس بشكل عام.
وفي الوقت نفسه، بلغت أحجام التداول بين البيتكوين والروبل الروسي أعلى مستوى لها في تسعة أشهر، وفقاً لبيانات من شركة أبحاث العملات المشفرة، "كايكو"، ما يشير إلى أن الروس ربما يحولون أموالهم إلى العملات المشفرة مع انخفاض الروبل إلى أدنى مستوياته.
وفي حين أن بداية الهجوم الروسي في أوكرانيا أدت إلى انخفاض حاد في قيمتها، فقد ارتفعت أسهم العملات المشفرة كثيراً مؤخراً. وارتفعت قيمة البيتكوين بنسبة تصل إلى 20%، وهي طفرة يعزوها العديد من عشاق العملات المشفرة إلى حالات استخدامها المختلفة، التي تظهر في الصراع الروسي الأوكراني.
هل تنقذ العملات المشفرة الاقتصاد الروسي؟
يتم تداول الأصول المشفرة عبر "بلوكتشين" مرئية للجمهور، تسهل على وكالات إنفاذ القانون أو وكالات الطرف الثالث تتبع تدفق المدفوعات الرقمية.
وتتطلب البورصات المركزية الأكبر مثل "بينانس" و"كوين بيس" بروتوكولات من شأنها أن تساعد الوكالات الأمنية على تتبع الأصول إلى مستخدم معين، ولكن يمكن استخدام البورصات اللامركزية الأصغر لنقل الأصول دون تحديد المعلومات.
وفي حين أن الحكومات التي تفرض عقوبات على روسيا لا يمكنها معرفة من هو مالك العنوان الذي يرسل التشفير، إلا أنها تستطيع تتبع حجم التدفق المالي. فبمجرد وضع علامة على عنوان مشبوه، يمكن مراقبة هذه الأموال، ومع ذلك تدرك وزارة الخزانة الأمريكية أن العملات الرقمية ومنصات الدفع البديلة يمكن أن تقوض فاعلية برامج العقوبات، بعد أن حددت العملات المشفرة كتهديد رئيسي في تقرير صدر العام الماضي.
وفقاً لـChainalysis، ذهب 74% من عائدات برامج "الفدية" في عام 2021 -أكثر من 400 مليون دولار من العملات المشفرة- إلى عناوين "من المرجح جداً" أن تكون تابعة لروسيا. وتحولت الدول الاستبدادية الأخرى بشكل متزايد إلى العملات المشفرة للالتفاف على العقوبات أيضاً.
وكانت كوريا الشمالية تخفف من وطأة العقوبات الدولية من خلال تمويل برنامجها الصاروخي، من خلال العملات المشفرة المسروقة، حيث سرق القراصنة ما قيمته 400 مليون دولار من الأصول الرقمية في عام 2021 وحده.
وقد ساعدت صناعة تعدين البيتكوين الإيرانية في تجنب العقوبات التي تمنع طهران من الدخول إلى الأسواق المالية، حيث يتم الدفع لعمال تعدين مباشرة بعملة البيتكوين، والتي يمكن استخدامها بعد ذلك لدفع ثمن الواردات.
ولكن روسيا حالة مختلفة تماماً، نظراً لحجم الحرب الاقتصادية المفروضة عليها، ومدى رسوخ جذورها داخل النظام المالي الدولي: تتم أكثر من 80% من معاملاتها اليومية بالعملات الأجنبية وأكثر من نصف تجارتها بالدولار.
هناك اعتقاد متنامٍ في الأوساط الاقتصادية يشك بأن العقوبات قد يكون لها تأثير غير مقصود، يتمثل في دفع موسكو نحو بناء بدائل للنظام المالي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي من شأنه أن يقلل من هيمنة واشنطن على الدولار.
وفي الواقع، ورد أن روسيا تعمل على تطوير بديل خاص بها لنظام سويفت، والذي يدعي رئيس الوزراء السابق دميتري ميدفيديف أنه فعال، ويمكن أن يحل محل وصول سويفت.
وإذا كان ذلك صحيحاً، فقد تتاح لروسيا فرصة لتصبح مركزاً لشبكة مصرفية عالمية موازية مستقلة عن الهيمنة الغربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.