يقول الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو: "ينبغي لك أحياناً أن تتكيّف مع حقيقة أنك لا تُشكل أهميةً عظمى لأحد".
ولو عاش في العالم الجنوبي (الثالث) من المؤكد أنه كان سيقول: ينبغي لك أن تتأكد أنك لم ولن تشكل أهمية لأحد، مهما امتد العمر بك.
لفت الانتباه وتخيل أن الكون يمكن أن يتمحور حول ذات واحدة في عالم يسكنه أكثر من سبعة مليارات هو بالأساس ضرب من الجنون والخيال، ولكنه هاجس الكثير من الناس اليوم، أناس يعانون من تورُّم الأنا وتضخمها، وللأسف هو مرض عضال أصاب الناس وما زال يصيب العديدَ من الأجناس البشرية على اختلافها، ولكنه يتفاقم عند الشعوب المقهورة بسبب عقدة النقص
ففي زمن باعت فيه مواقع افتراضية مدة صلاحيتها محدودة جداً -على عكس ما يتخيل البعض- أوهاماً بأنه يمكنك أن تشغل مساحةً في حياة الناس، مهما كانت ظروفهم ووضعياتهم الاجتماعية، قد يُلْغَى وجودك لمجرد أنَّ هناك مسؤولاً مستهتراً لا يأبه بحياة العامة، رغم أنه سُخِّرَ لها، فمن لا يجد رغيف يومه من المستحيل أن يهتم بمراهق يحاول التأثير على مراهقين أمثاله، ومن تنقطع الكهرباء في وطنه كل ساعة سيصبح همه الوحيد تعويض الخسارة الناتجة عن ذلك.
لا أحد ذو أهمية في العالم الجنوبي، كلنا سواسية، كلنا أموات، ولكن طبعاً لسنا في نفس القبر، أتعلم أنه العالم الوحيد الذي يتساوى فيه صاحب الدينار مع صاحب المليار؛ لأنه بكل بساطة قد تنهض صباحاً لتجد أن السيولة منعدمة في البنوك والمصارف، في بلدان عملتها الوحيدة أوراق بالية مهترئة، تشبه لحد كبير أوراق وأموال أهل الكهف، بعد نومهم أكثر من ثلاثة قرون، فكيف يستغرب الناس من بلدان تفرض ضريبة 200 بالمئة لكل سلعة تشتريها من الخارج، ونحن ندفع ضريبة أبدية أزلية دون أدنى نشاط تجاري، سوى أننا وُلدنا في العالم الجنوبي.
أتعلم أن قول آلان دونو في كتابه نظام التفاهة
"مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين، أيّ تحويلهم إلى رموز.
صار بإمكان أية جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ، أن يفرضا نفسيهما على المشاهدين، عبر عدة منصات تلفزيونية عامة… هي في أغلبها منصّات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنّا بأيّ منتح قيميّ صالح لتحدي الزمان".
يمكنك ضربه في ألف إذا طبق على بلدان العالم الجنوبي، كل هموم العالم هي أضعاف في العالم الجنوبي، فحتى فسحة الأمل التي فتحها المد التكنولوجي والرقمي لسكان العالم الثالث؛ ليبحثوا عن آفاق أخرى خارج أوطانهم المشلولة سياسياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً، يسعى محتكرو الحق في الحياة لسدها.
حين أغلقوا جل أبواب الخروج وحصروها في باب واحد للدخول والخروج، فقط ليسمحوا بالخروج لمن يحبون ويمنعوا الخروج على من لا يحبون. ترذيل الحياة العلمية، ومن بعدها سد أبواب الخروج والسفر، هي محاولة قصر الفكر الإنساني على تجاوز حدوده، وكذلك استنساخ للبشر، بنفس المعايير، ونفس المقاسات، ونفس أفق التفكير والأحلام.
علامة تجارية واحدة تُسمى الإنسان المثلث، القاصر عن إيجاد زاوية رابعة في حياته، بعد العمل والنوم الأكل. من العيب أن يفكر الإنسان وهو لا يتجاوز حدود تلك الأقطاب الثلاثة، ثم لماذا يفكر إن كان هناك من يفكرون بدلاً عنه، ويحدّدون مصيره ومستقبله دون الرجوع إليه.
الحرية مفهوم بالٍ وغير صالح، في أوطان أصبحت البطالة فيها حلماً…
لا أعلم ماذا أكتب، ولمن أكتب، كل ما أعرفه أن هناك أزمة سير كبيرة في عقلي، تتصادم فيها أفكار كثيرة، كل فكرة تحاول أن تتصدر حروفي، ولهذا قد تبدو أفكاري غير متناسقة، ولكن هي للأسف أفكار مواطن العالم الجنوبي، حين يرى العالم لا ينفك يقطع أشواطاً نحو الحضارة الإلكترونية والتكنولوجية، في حين لا يجد حين ينظر لمرآته سوى انعكاس لإنسان الزمن القَبَلي، أو بقايا إنسان، فحتى الزمن القَبَلي له نواميسه أحياناً!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.