نفاق وانتهازية وعنصرية، هكذا يمكن تلخيص الموقف الإسرائيلي من الغزو الروسي لأوكرانيا، فالدولة التي تزعم أنها واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وتنتمي للمنظومة الغربية عالمياً، لم تعلن موقفاً واضحاً وقوياً لدعم الحكومة الأوكرانية الشرعية المنتخبة ديمقراطياً ضد الغزو الروسي غير الشرعي للبلاد.
إلى ذلك، سعت إسرائيل وبانتهازية موصوفة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية والديموغرافية من الأزمة، أما العنصرية فتبدت في المعاملة السيئة للاجئين الأوكرانيين، والتمييز الصارخ بين اليهود وغيرهم، وحتى إعلان ذلك على الملأ ودون خجل أو مواربة.
بدت الحكومة الإسرائيلية مترددة متلعثمة في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعد فترة من الصمت والتردد فعل وزير الخارجية يائير لابيد ذلك، بينما لم يعلن رئيس الحكومة نفتالي بينيت إدانته الصريحة والواضحة للغزو حتى اليوم.
ورغم ادعاء الدولة العبرية أنها واحة الديمقراطية في المنطقة، وتستجدي الدعم الغربي والدولي بصفتها هذه، إضافة إلى مزاعم كونها قاعدة أو طليعة متقدمة للعالم الديمقراطي المتنور، فإنها لم تصطفّ إلى جانبه فعلياً في الأزمة لا سياسياً ولا حتى اقتصادياً، كما رأينا في قصة العقوبات ضد روسيا، مع استعداد نظري فقط للالتزام بها، عبّر عنه وزير الخارجية أيضاً، لا رئيس الوزراء، باعتباره أعلى سلطة تنفيذية في الدولة العبرية.
إسرائيل الأولى ضد إسرائيل الأولى
لفهم أوسع لخلفيات الموقف الإسرائيلي لا بد من الإشارة إلى معطى تاريخي وفكري وسياسي مهم، يتمثل في كون إسرائيل الأولى القديمة، التي قادها لعقود حزب "مباي" -العمل لاحقاً- وممثلو المزارع التعاونية "الكيبوتسات" من اليهود الغربيين الأشكناز، سعت دوماً للتموضع ضمن المنظومة الغربية، ولو في سياق اشتراكي ديمقراطي، كما أراد مؤسس الحزب وأحد مؤسسي الدولة وأول رئيس وزراء فيها دافيد بن غوريون.
أما إسرائيل الثانية، والتي انطلقت سيرورتها إثر ما يوصف بالانقلاب في سبعينيات القرن الماضي، والذي أوصل حزب "حيروت" -الليكود لاحقاً- إلى السلطة بزعامة خصم بن غوريون الفكري والسياسي، مناحيم بيغن، مدعوماً من اليهود الشرقيين أساساً، ثم تسارعت وتيرتها وتكرست هويتها أكثر خلال العقد الأخير مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو.
وبدت الدولة العبرية أكثر يمينية وتطرفاً، وأقل ديمقراطية، حتى بالمعيار الإسرائيلي، ونظرتها هي إلى نفسها -ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب- بينما نسج نتنياهو علاقات خارجية مع الزعماء المستبدين غير الديمقراطيين حول العالم، وحتى مع الفاشيين واليمين المتطرف في آسيا وأوروبا، كما رأينا في قصة أو فضيحة برنامج التجسس "بيغاسوس" -قرصان القرن الحادي والعشرين- الذي اعتبره نتنياهو عنصراً محورياً ومهماً في سياساته الخارجية، وعلاقاته مع الأنظمة الاستبدادية إقليمياً وعالمياً.
أما المستوطنون بالأراضي المحتلة عام 1967، فقد استبدلوا "الكيبوتسيين" في السلطة، كما نرى في نماذج نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان وآخرين، ورغم أنهم يهود غربيون نظرياً، إلا أنهم لا يتقلبون نقد الدول الغربية لسياساتهم وممارساتهم الاستيطانية، وباتوا عملياً أقرب إلى روسيا والأنظمة الاستبدادية منهم إلى أمريكا وأوروبا، مع الانتباه إلى أن ليبرمان تبنَّى كوزير خارجية سياسة مشابهة تماماً لنتنياهو، وهو أحد أكثر المعجبين إسرائيلياً وعالمياً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونموذجه الشيشاني "الإجرامي"، الذي تنقل من غروزني إلى حلب السورية، قبل أن يحط أخيراً في المدن الأوكرانية.
هذا يعني أن ثمة عاملاً فكرياً سياسياً ديمقراطياً حدّد الموقف الإسرائيلي من الغزو الروسي والأزمة الأوكرانية بشكل عام، لذلك جاء قريباً من موقف المستبدين العرب وأنظمة الاستبداد عموماً، الداعمة ولو ضمنياً لروسيا، وهو ما يفسر من جهة أخرى موجة التطبيع الأخيرة بين الأنظمة نفسها والدولة العبرية.
ادعاء الوساطة بين موسكو وكييف
النفاق تبدّى أيضاً عبر ادعاء الوساطة بين موسكو وكييف، لتبرير عدم اتخاذ موقف واضح وصريح من الأزمة. وهنا مثلاً ثمة فرق كبير وجوهري عن الوساطة التركية الجدية والمبدئية والمسؤولة، يكشف في ثناياه حقيقة فهم تركيا لنفسها كقوة إقليمية كبرى، وفهم إسرائيل أيضاً لنفسها كقوة صغيرة لا مكان لها فعلياً -سوى دعائياً ربما- في الأزمات العالمية بامتياز.
ولذلك بدت وساطة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت أقرب إلى مهمة ساعي البريد بين الطرفين، حسب التعبير الأوكراني العلني والدقيق. وحاول حتى الضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للقبول بشروط الاستسلام الروسية فقط لإنهاء الأزمة بأي وسيلة كانت وبأقرب فرصة ممكنة، والتحرر بالتالي من الضغوط الأمريكية والأوروبية التي تطالبه باتخاذ موقف واضح وصريح منها.
أما الانتهازية فتجلّت في السعي للحفاظ على العلاقات مع روسيا بكل الوسائل، لضمان استمرار التنسيق معها في سوريا، ودوام حرية العمل الممنوحة لها جواً وبراً ضد التموضع الاستراتيجي، لا الوجود الإيراني بحد ذاته في الأراضي السورية.
في هذا السياق كان الموقف واضحاً للسفير الروسي في تل أبيب أناتولي فيكتوروف، وتضمن استمرار التنسيق والتفاهم في سوريا، باعتباره ناجعاً ومفيداً للطرفين، مع تفهم واحتواء لبعض الأصوات الإسرائيلية المنددة بالغزو الروسي.
وهنا نلحظ انتهازية روسية مقابلة بهدف إبقاء إسرائيل كنافذة مفتوحة على أمريكا وساحتها السياسية، وفق قناعة أنظمة الاستبداد التقليدية القائلة إن الطريق إلى واشنطن يمر أيضاً بتل أبيب.
الانتهازية تجلت كذلك في رفض بيع السلاح لأوكرانيا، لتحاشي إغضاب روسيا، وفي نفس الوقت استغلال أزمتها ومعاناتها لترويجه بين الدول الأوروبية المحيطة بأوكرانيا، تحديداً منظومة القبة الفولاذية المضادة للصواريخ، التي رفضت تل أبيب بيعها لكييف ولو من خلال واشنطن.
وفي السياق الانتهازي، سعت تل أبيب لاستغلال الحرب ومآسيها لتشجيع اليهود في أوكرانيا -ربع مليون تقريباً- وحتى من روسيا نفسها -نصف مليون- على الهجرة إلى إسرائيل، بينما تعمل اللجان المختصة المعنية بما فيها الوكالة اليهودية المكلفة بالهجرة في المنطقة الحدودية بين أوكرانيا وبولندا.
ولذلك كان لافتاً إبقاء خطوط الطيران مفتوحة بين تل أبيب وموسكو، رغم العقوبات الدولية ضد روسيا، بحجة مساعدة يهود روسيا نفسها للهجرة إلى إسرائيل. بينما جاء تصريح وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا عن تحقيق شركة العال الإسرائيلية مكاسب مالية مغموسة بالدم قاسياً ومعبراً وصحيحاً، حتى لو تم التراجع عنه فيما بعد، لحاجات ومصالح سياسية ودبلوماسية.
الانتهازية حضرت أيضاً في استقبال الأوليغارشيين رجال الأعمال الروس المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، والذين فُرضت عليهم عقوبات أمريكية وأوروبية صارمة بطائراتهم ويخوتهم الخاصة، خاصة أن عدداً معتبراً منهم يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويبدو رومان أبراموفيتش مجرد نموذج منهم، علماً أنه يملك عزبة خاصة في بلدة هرتسيليا قرب تل أبيب، وكان حصل على الجنسية الإسرائيلية في العام 2008، وفق قانون العودة المخصص لليهود فقط، حيث لا ضرائب لعشر سنوات، ولا مساءلة عن مصدر الثروات المالية، وهو قانون عنصري بامتياز كما قالت منظمة العفو الدولية "أمنستي" عن حق، في تقريرها الأخير الذي وصفت فيه إسرائيل بدولة الفصل العنصري.
"إن أعطيتهم السلطة يدمرون الدولة"
وفيما يخص العنصرية فتجلت في التمييز بين اللاجئين اليهود وغير اليهود من مطار بين غوريون، بل ومن منطقة استقبال اللاجئين في المنطقة الحدودية الأوكرانية البولندية، التي انتقلت إليها السفارة الإسرائيلية من العاصمة كييف.
إضافة إلى التنكيل باللاجئين ووضعهم في ظروف سيئة بالمطار ومؤسسات الإيواء، وفرض كفالة مالية على غير اليهود، واستقبالهم ضمن سقف زمني محدد، مع طلب ضمانة من الأصدقاء والمعارف، ووصل الأمر حتى إلى حد محاولة استغلال العصابات الإسرائيلية لهم في أعمال منافية للآداب والأخلاق.
في الحقيقة تضمّن خطاب الرئيس فولوديمير زيلينسكي أمام الكنيست، مساء الأحد، المعطيات والمفاهيم السابقة تلميحاً وتصريحاً بالعموم، وكشفت الأزمة الأوكرانية عن الوجه الحقيقي لإسرائيل، حيث تبدو الدولة العبرية أكثر يمينية وتطرفاً وعنصرية وأقل ديمقراطية -بتعريفها هي نفسها- ما يترك بالضرورة تداعيات سلبية عليها بالمدى الاستراتيجي تحديداً، فيما يتعلق بالتعاطف الغربي والدولي معها.
وهنا لا بأس بتذكر مقولة، أو للدقة نبوءة مؤسسها دافيد بن غوريون، الذي خطب في الكنيست، بعد فوزه بالانتخابات العامة الثانية بداية خمسينيات القرن الماضي قائلاً: إنه سيشكل حكومة مع الجميع عدا حيروت وماكي، فقال له أحد مساعديه نعرف أسباب استبعاد ماكي؛ كونهم شيوعيين غير صهاينة وبينهم عرب، ولكن لماذا استبعاد حيروت وهم صهاينة مثلنا، فأجابه بن غوريون "إنهم خياليون، إن أعطيتهم السلطة يدمرون الدولة"، وهذا بالضبط ما يفعله الآن ورثة حيروت داخلياً وخارجياً أيضاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.