بدأ القلق يعتريها فى العام التاسع والعشرين، عندما اكتشفت فجأة فى عشية عيد ميلادها أن وعاء السنوات الذي يخصها قد ثقب. كان أمراً جديداً للغاية وغريباً بالنسبة لها، حيث لم يحدث على الإطلاق أن لاحظت به تغيراً قد أثار اهتمامها من قبل.
تتذكر جيداً سنوات الطفولة عندما كان مصمتاً، فارغ المنظر ومملاً للغاية بالنسبة لها، كم تطلعت لمعرفة فائدته، لماذا وجد من الأساس، كيف يمكن أن تلعب به، إنها حتى لا تستطيع أن تأكل فيه كما تأكل فى أوعية المطبخ.
لا بد أنه وعاء من نوع خاص لا يستقبل سوى محتوى وحيد لم يدركه عقلها آنذاك، فقدت تجاهه الحماسة وتجاهلته لفترة لا بأس بها، إلى أن دخلت مرحلة المراهقة، للمرة الأولى منذ مدة وجدت أنه لم يعد يبدو فارغاً كما رأته آخر مرة، إن به بعض السنوات القليلة التي تتبدى في ضآلة.
بالطبع تزايدت تساؤلاتها مع تزايد إدراكها في تلك المرة، لماذا لم يعد يثير اهتمامها كما في السابق، كان ذلك تحديداً في عشية عيد الميلاد الخامس عشر، نظرت لصورتها في المرآة وتساءلت حقاً هل أصبحت تبالي به، شد ما تتطلع إلى أن يمتلئ أكثر وأكثر، هل يمكن أن تشعر بالرغبة في عودته فارغاً مرة أخرى كما تردد أمها وتسمع من سائر البالغين؟
كلا. إن هذا أبعد ما يكون عما ترغب، إن امتلاءه عاماً بعد عام يثير في نفسها الشغف، إنها تتفتح يوماً بعد يوم وهي تمضي في صباها وتتطلع إلى الحرية، إلى ذروة حياتها كما تتخيل.
في ليلة عيد الميلاد الثامن عشر، وجدت أن مرآه لم يعد يثير في نفسها الشغف بقدر ما يثير التساؤلات، متى تنتهي تلك الأيام المحمَّلة بأعباء الدراسة، متى تتحرر من سلطة والديها، متى تستقل بهاتف خاص، وتقود سيارتها الخاصة، متى ستخرج في أول موعد غرامي، متى تصلها أول رسالة حب ومتى تختبر أول قبلة، غرقت في بحر من التساؤلات والأفكار.
كانت تتزايد عاماً بعد الآخر كلما امتلأ الوعاء قليلاً، حتى عشية العام الواحد والعشرين، وقتها توقفت التساؤلات للمرة الأولى، صحيح أنها افتقدتها، ولكن منظر الوعاء كان باعثاً على الرضا للغاية وبشكل أشعرها أنها تمتلك الدنيا أو أوشكت، منذ تلك الليلة لم تكترث لشيء، لم يتوقف الشغف حتى حلول عيد ميلادها التاسع والعشرين.
تلك المرة التي لا تنسى عندما رأت الثقب الأول، لأول مرة يثير الوعاء شفقتها، ذلك الذي طالما أثار غيظها ولا مبالاتها، كان عليها أن تجلب الشرائط اللاصقة.
في البداية لم يتطلب الثقب سوى شريط واحد قصير، فعلتها وشعرت لوهلة قصيرة أن الوعاء بدأ يحتل جزءاً من اهتمامها، ولكن في عيد الميلاد التالي، الثلاثين، كان جلياً أن الأمر بات غير مرجوع، ليس فقط لأن الثقب قد أصبح أكثر عمقاً، بل لأن الشق الواحد باتت تنبثق منه شقوق أصغر تتفرع في اتجاهات عديدة، مما ينذر بسرعة الفقد. هي بلا شك سوف تحتاج إلى المزيد من الشرائط اللاصقة حتى تمنع السنوات من التسرب خارجه، لم يدفعها ذلك الخوف إلا إلى مناقشة الأمر مع صديقاتها المقربين، اللواتي يماثلنها في العمر، بالطبع قد اطمأنت بعض الشيء عندما وجدت أن الأمر شائع وعام، ولكن ذلك لم يمنعها من إحضار المزيد من الشرائط اللاصقة قبل العودة إلى المنزل.
في تلك الليلة سهرت أمام الوعاء، شرعت في إصلاح الشقوق كيفما اتفق معها بينما يراودها تساؤل وحيد، إلى متى سوف يصمد الوعاء بتلك الحالة، هل يمكن أن تحتاج إلى مساعدة خارجية.
مر الوقت واعتادت الأمر فلم تكترث كثيراً في العيد الحادي والثلاثين، بينما ظلت التساؤلات تؤرقها في العيد الثاني والثالث والرابع والثلاثين، خاصة بعد وفاة أبيها.
في اليوم السابق للعيد الخامس والثلاثين دهمتها صحوة مفاجئة لم تدرِ مبعثها، استيقظت ذلك اليوم بشيء من الأمل وكثير من الندم، حملت الوعاء المتهالك بمزيد من الحرص والحب، كانت الرغبة في الاستمرار تقودها وتدفعها إلى الاحتفاظ بالتساؤلات، تلك الوسيلة الوحيدة التي ستمكّنها من استعادة ذروة حياتها مرة أخرى.
عندما وصلت إلى الخبير المختص، أصابها الكثير من الإحباط، عندما تأكد لها وبشكل قاطع أن الأمر غير قابل للإصلاح، كانت لديه بدائل عدة، أخبرها أن بإمكانه استعمال لصق أقوى وأطول تأثيراً من تلك الشرائط، ولكن الأمر مرتد لا محالة. إذ إنه يعتمد على عدد الشقوق، طمأنها بعض الشيء وجود مثيلات لها هناك يحملن أوعيتهن الخاصة، قليلات منهن مماثلات في الحالة بينما الأخريات حضرن فقط لإصلاح شق وحيد صغير، تأملتهن جيداً، راعها كونهن يكبرنها في العمر.
فزعت، هالها تهاونها تجاه وعائها طيلة تلك السنوات، من جديد عادت التساؤلات، لماذا لم تهرع منذ الشق الأول، أين كانت لاهية بعد عشية العيد التاسع والعشرين ثم الثلاثين. عرض عليها المختص عرضاً أخيراً، وهو إبدال وعائها المهترئ بآخر جديد بلاستيكي غير أصلي، حاول إقناعها بأنه سوف يفي بالمطلوب، ولكن ذلك بخلاف مشكلة وحيدة نبهها إليها، أنها إذا قبلته فلن تكون قادرة على الضحك بعد ذلك.
مجرد سماعها للشرط أفقدها الرغبة في الابتسام، رفضت عرضه وشكرته بامتنان مزيف، ظلت طوال قيادتها للمنزل تنظر برثاء للوعاء القابع بجانبها على الكرسي المجاور، فكرت أنه يبدو لها عجوزاً بقدر ما تشعر هي بداخلها.
بطول الطريق المؤدي إلى المنزل، داهمتها أفكار مجنونة، رأت آلة زمن تعيدها معه سيرتهما الأولى، ثم تخيلت أن تفتح باب السيارة أثناء سيرها وتلقي به على قارعة الطريق، ولا تبالي إذا تحطم، عندما وصلت أخيراً كانت بغاية الإرهاق، شعرت أنه جزء منها، حملته بكثير من الحرص والشفقة، أدارت المفتاح في ثقب الباب فوجدت الجميع بانتظارها، تهللت لمرآهم ولبهجة الكعكة المزينة، التفوا جميعاً معها حول الشمعات المضيئة التي تحمل رقم الخامس والثلاثين، وقفت في منتصف الجمع المبهج تختبر قدرتها على الضحك مرة بعد مرة، ودون سبب وكأنما اكتشفت شيئاً ثميناً كانت قد نسيته، غنوا لها وقبلوها وطلبوا منها تمني أمنية ما، وعندما أغمضت عينيها، لم تتمن شيئاً في تلك اللحظة بقدر أن يستعيد الوعاء رونقه مرة أخرى، أن يصمد لتراه ممتلئاً يوماً ما، أطفأت الشمعات بينما لم تتوقف عن سؤال نفسها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.