ليست هذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها الصين شراء النفط باليوان بدلاً من الدولار، لكنها المرة الأولى التي تجد بائعاً راغباً في عملتها.
تجري المملكة العربية السعودية محادثات نشطة مع بكين لتسعير بعض مبيعاتها النفطية إلى الصين باليوان الصيني بدلاً من الدولار، وهي خطوة يمكن أن "تشل" ليس فقط هيمنة نظام "البترودولار" على أسواق النفط العالمية وتمثل تحولاً آخر من قبل أكبر مصدر للنفط الخام في العالم نحو آسيا، ولكن أيضاً خطوة تهدف بشكل مباشر إلى قلب النظام المالي الأمريكي الذي استفاد من وضع احتياطي الدولار من خلال طباعة أكبر عدد ممكن من الدولارات اللازمة لتمويل الإنفاق الحكومي على مدى العقد الماضي.
ووفقاً للتقرير الذي نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن المحادثات مع الصين بشأن تسعير عقود النفط السعودي باليوان كانت متوقفة رغم انطلاقها قبل ست سنوات، لكنها تسارعت هذا العام مع تزايد استياء السعوديين من قلة الالتزامات الأمنية الأمريكية للدفاع عن المملكة.
فالسعوديون غاضبون من عدم دعم الولايات المتحدة لتدخلهم العسكري باليمن، وإزاء محاولة إدارة بايدن إبرام صفقة سياسية واقتصادية مع إيران بشأن برنامجها النووي.
هل ندخل عصر "البترويوان"؟
تشتري الصين أكثر من 25٪ من النفط الذي تصدره السعودية، وإذا تم تسعيره باليوان، فإن هذه المبيعات ستعزز مكانة العملة الصينية، وتضع العملة الصينية على طريق أن تصبح عملة احتياطي عالمية أو ربما يظهر نظام "البترويوان".
وكما تشرح وول ستريت جورنال، فإن التحول إلى بيع حصة نفطية مقابل اليوان سيكون "تحولاً عميقاً بالنسبة للمملكة العربية السعودية لتسعير حتى بعض صادراتها من النفط الخام التي تبلغ حوالي 6.2 مليون برميل يومياً بأي شيء آخر غير الدولار"؛ حيث إن غالبية مبيعات النفط العالمية- حوالي 80٪- تتم بالدولار، وقد تداول السعوديون النفط حصرياً بالدولار منذ عام 1974 في صفقة مع إدارة نيكسون تضمنت ضمانات أمنية للمملكة.
ويبدو أن السعوديين لم يعودوا يهتمون كثيراً بالضمانات الأمنية الأمريكية، وبدلاً من ذلك يغيرون بوصلتهم صوب الشرق، ولو قليلاً، حيث الصين.
وللتذكير، في مارس/آذار 2018، قدمت الصين عقود النفط المسعرة باليوان كجزء من جهودها لجعل عملتها قابلة للتداول في جميع أنحاء العالم، لكنها لم تحدث تأثيراً في هيمنة الدولار على سوق النفط، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الدولار الأمريكي ظل العملة المفضلة لمصدري النفط. ولكن بالنسبة للصين أصبح استخدام الدولار خطراً أبرزته العقوبات الأمريكية على إيران بسبب برنامجها النووي وعلى روسيا رداً على غزوها لأوكرانيا.
وإن التحول التاريخي اليوم ليس مفاجأة بالضبط؛ فقد كثفت الصين من مغازلتها للمملكة السعودية في السنوات الأخيرة، وساعدت السعودية على بناء صواريخها الباليستية الخاصة بها، واستثمرت في مشاريع ولي العهد محمد بن سلمان، مثل مدينة "نيوم".
وفي غضون ذلك، تدهورت العلاقة السعودية مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس بايدن، الذي قال في حملته لعام 2020 إن المملكة يجب أن تكون "منبوذة" لقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في عام 2018. والأمير محمد بن سلمان رفض الرد على مكالمة هاتفية من جو بايدن قبل أيام.
كما يأتي التقارب السعودي الصيني في الوقت الذي تتضاءل فيه الشراكة الاقتصادية الأمريكية مع السعوديين. تعد الولايات المتحدة الآن من بين أكبر منتجي النفط في العالم، وهو انعكاس صارخ عن الثمانينيات عندما كانت تستورد مليوني برميل من الخام السعودي يومياً، لكن هذه الأرقام انخفضت إلى أقل من 500 ألف برميل يومياً في ديسمبر/كانون الأول 2021.
وعلى النقيض من ذلك، تضخمت واردات الصين من النفط على مدى العقود الثلاثة الماضية، بما يتماشى مع اقتصادها الآخذ في التوسع. وكانت السعودية أكبر مورد للخام للصين في عام 2021، حيث باعت لها 1.76 مليون برميل يومياً، تليها روسيا بـ 1.6 مليون برميل يومياً، وفقاً لبيانات من الإدارة العامة للجمارك في الصين.
وبالنظر إلى الماضي القريب، نعرف الآن سبب عدم تلقي محمد بن سلمان لمكالمات بايدن الهاتفية.
وبطبيعة الحال، من الممكن أن يتراجع السعوديون عن إبرام الصفقة المنتظرة مع الصين لأسباب لا علاقة لها بواشنطن. فتحويل ملايين براميل النفط من الدولار إلى اليوان كل يوم يمكن أن يربك الاقتصاد السعودي، الذي ترتبط عملته الريال بالدولار.
ولذا تتناثر أنباء عن تحذيرات من مساعدي محمد بن سلمان من أضرار اقتصادية لا يمكن التنبؤ بها إذا مضى قدماً في الخطة على عجل. أو ربما تستعد السعودية فقط لليوم الذي سيتم فيه كسر ربط العملة لقطع آخر ارتباط رئيسي مع الولايات المتحدة.
إن القيام بمزيد من المبيعات باليوان من شأنه أن يربط السعودية بالعملة الصينية بشكل أوثق، والتي لم تتعامل مع المستثمرين الدوليين بسبب القيود الصارمة التي تفرضها بكين عليها. كما أن التعاقد على مبيعات النفط بعملة أقل استقرارا قد يقوض التوقعات المالية للحكومة السعودية.
ومن المحتمل أن يعتمد التأثير على الاقتصاد السعودي على عدد مبيعات النفط المعنية وسعر النفط. وقال بعض الاقتصاديين إن الابتعاد عن مبيعات النفط المقومة بالدولار سينوع قاعدة إيرادات المملكة وقد يؤدي في النهاية إلى إعادة ربط الريال بسلة عملات على غرار ما جرى للدينار الكويتي.
أجزاء اللعبة النهائية
يجري السعوديون معظم المعاملات النفطية بالدولار، لكن التحول قد بدأ، وقد تغري هذه الخطوة المنتجين الآخرين بتسعير صادراتهم الصينية باليوان أيضاً. ومصادر النفط الكبيرة الأخرى للصين هي روسيا وأنغولا والعراق. وقال الخبير الاقتصادي غال لوفت، المدير المشارك لمعهد تحليل الأمن العالمي ومقره واشنطن: "إن سوق النفط، وبالتالي سوق السلع العالمية بأكمله، هو بوليصة التأمين الخاصة لوضع الدولار كعملة احتياطية".
وهكذا، فإن أجزاء اللعبة النهائية تقع في مكانها، روسيا تجوع العالم الغربي من الموارد التي تشتد الحاجة إليها، في حين تلتقط شريكتها الصامتة الصين القطع النقدية بهدوء وتستفيد من التدافع الغربي لتأمين الموارد بأي ثمن، والتعامل مع جميع عملاء البترودولار السابقين "غير الغربيين"- وهم أغنياء أيضاً بالموارد الأخرى- لتقديمهم منتجاً جديداً، اليوان، الذي تدفعه بكين الآن بنشاط وبقوة للتخلص من الدولار كعملة احتياطية عالمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.