من سوء حظ الكائن البشري أنه ينضج بيولوجياً قبل أن ينضج فكرياً واجتماعياً واقتصادياً، فالنضج البيولوجي غالباً ما يكتمل في الفترة العمرية ما بين 12 و18 سنة، على اختلاف الواقع مع صنف الذكور، الذي يكون عنده بلوغ متأخر بالمقارنة بصنف الإناث، وعلى اختلاف أيضاً بين أفراد كلا الجنسين فيمن يكون عنده بلوغ مبكر أو متأخر، نتيجة عوامل جينية وبيئية، وما يتعلق بنوعية التغذية عامة.
لكن النضج الاجتماعي سواء أكان فكرياً أو اقتصادياً لا يتحقق للشخص في الغالب إلا بعد مروره بتجارب حياتية متنوعة، تُمكِّنه من مهارات عيش مختلفة، مما له علاقة بالمجالين الدراسي أو المهني، ثم يحصل في النهاية على عمل قارٍّ يضمن له استقراره الاجتماعي، ويجعله قادراً على تحمل مسؤولية تبعات سلوكه الجنسي، في إطار مؤسسة أسرية لا تعترف مجتمعاتنا العربية والإسلامية بوجود أي جنس مشروع إلا داخلها.
في هذا السياق الاجتماعي الخاص كان لزاماً على الشباب المحافظ على هويته الدينية والثقافية ذكوراً وإناثاً، أن يُعطّلوا غريزتهم الجنسية طوال المدة الفاصلة بين النضج البيولوجي والنضج الاجتماعي، وإلا كان البديل هو الدخول في دوامة من العلاقات والممارسات الجنسية اللامشروعة دينياً وأخلاقياً وقانونياً، سواء تعلق الأمر بالعلاقات الرضائية، أو ممارسة العادة السرية وما يصحبها من مشاهدة الأفلام الإباحية، أو تعاطي الدعارة والبيدوفيليا والإيجيبيتي وغيرها.
ذلك أن هذه المدة لم تعد قصيرة كما كانت في غابر الأزمان، حيث كان الصوم الذي أرشد إليه نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم حلاً ناجعاً لها، بل صارت مدة طويلة جداً بسبب تعقيدات الحياة المعاصرة، والتغيرات الاجتماعية الجديدة، فأضحت تتراوح في غالب الحالات ما بين 10 سنوات إلى 15 أو 20 سنة على أقل تقدير.
بالإضافة لما يصحب هذه المرحلة البينية من استفزازات جنسية متنوعة عن طريق حملات الإغراء الجنسي التي غزت منصات الإنترنت ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي، حتى صارت تستثمر بطريقة أو بأخرى في الحرمان الجنسي للشباب، وتحقق أرباحاً طائلة من ورائه.
وأنا في صدد البحث عن عوامل هذا الحرمان تبادرت لذهني تجربة الشعوب غير الإسلامية، التي نجدها لا تعاني البتة من أي حرمان جنسي، بل لعلها تعاني من الإشباع الزائد لهذه الغريزة، ما أدى بها إلى انحرافات جنسية من نوع آخر، والسبب في ذلك راجع إلى أنها لا تقيد الإشباع الجنسي بالمؤسسة الأسرية، بل تعطي المشروعية لكل علاقة جنسية توافقت عليها إرادة الطرفين، وبالتالي من حق أي فرد عند نضجه البيولوجي أن يشرع في مباشرة حقه في التجربة الجنسية بكل حرية، وليس بالضرورة أن ينتظر نضجه الفكري والاقتصادي ليكون قادراً على تأسيس أسرة تمكنه من ممارسة أمر هو في الأساس حقه الطبيعي، الذي ليس من المفروض أن تربطه أي صلة بالعامل الاقتصادي، أو أن يحول دونه أي شيء آخر مهما كانت طبيعته.
في السياق نفسه، استوقفتني تجربة بعض الفئات من الشباب الإسلامي، التي تعتبر نفسها منفتحة ومتحررة نسبياً من هويتها الدينية والثقافيه، والتي نجدها كما يبدو أقل حرماناً من الشباب المتدين المحافظ، ذلك أنها تخفف من حرمانها الجنسي بإنشاء علاقات صداقة عابرة مع الجنس المخالف، سواء كان الرابط في هذه العلاقات هو المتعة الجنسية والمشاعر العاطفية، أو تم الاكتفاء فقط بكون الرابط هو الدراسة أو العمل أو الجيرة أو ما شابه ذلك من مصالح الحياة المشتركة، التي يتأتى معها احتكاك الجنسين، وفي كلا الحالين يقع أُنس كل طرف بالآخر، ويحصل نوع من تهذيب حدة طبيعتهما الغريزية، وتلطيف جوِّها الداكن.
بعد هذا وذاك، بدا لي وكأن دين الإسلام هو المسؤول عن هذا الحرمان؛ لأنه ببساطة يُقيد الإشباع الجنسي والعاطفي بالأسرة، ولا شيء غير الأسرة، لكن عند النظر في تجارب أسلافنا الأقدمين والوقوف على طبيعة الشكل الأسري الذي ساد عندهم تبعاً لظروفهم الخاصة، ومتغيرات مجتمعهم البسيطة، تبيّن لي أنهم كانوا ينعمون في وقت شبابهم باستقرار جنسي متوازن، بالرغم من أن الحضور الديني كان متجذراً فيهم أكثر، وأن ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية كانت أصعب.
وذلك بسبب جعلهم من الزواج المبكر نمط عيشهم وأسلوب حياتهم، لدرجة أن معظم الآباء كانوا يعتبرونه منهجاً تربوياً يصونون به فلذات أكبادهم من الانزلاقات والانحرافات التي تطرأ على المراهقين والبالغين وهم في طريقهم للتعرف على ذواتهم واكتشاف مختلف المتع الجسدية الكامنة فيهم.
فكان مجال تأسيس الأسرة بالنسبة لهم من أولى المجالات الجديرة بالتضامن العائلي والاجتماعي عامة، فضلاً عن أن النظام الاقتصادي المتبع من طرف العائلات الممتدة لم يكن من الأساس يطالب أفراده المقبلين على الزواج بضرورة تحقيق ملكية فردية مستقلة، على اعتبار أن مجرد انتمائهم للعائلة يكون عاملاً كافياً لجعلهم شركاء في أملاكها وأعمالها، التي كانت تتمثل غالباً في المجال الفلاحي، إذا ما تعلّق الأمر بالعالم القروي، أو المجالين التجاري والحرفي فيما لو تعلق الأمر بالعالم الحضري.
ورغم كل ما قد كان يعرفه هذا الشكل العائلي الممتد من مشاكل وتحديات متعلقة بسوء تدبير الشأن الأسري العام، وتسلُّط بعض أفراد الأسرة على البعض الآخر، ما أسهم في تنصيب الأسرة النووية بديلاً عنه، فإنه لم يترك أي مجال لظهور مشكلة الحرمان الجنسي وقت سيادته.
ثم إنني في نهاية المطاف تشكلت لديّ قناعة راسخة بأن معضلة الحرمان الجنسي لم تأتِ من كون الجنس مقيداً بالأسرة كمعطى ديني وثقافي أصيل، بقدر ما أتى من التعقيدات والتحريفات التي أضفاها المجتمع على مفهوم الأسرة، حيث صيَّرها عاجزة عن مواكبة متغيرات العصر، وعن ابتكارها لصيغ جديدة تُناسب ظروف الشباب المحروم، فظلت في تمثلاتنا الاجتماعية ذات نمط أحادي لا يقبل التفريع ولا التنويع، حبيسة هيكلها المجرد عن كل السياقات الاجتماعية الجديدة المتعلقة بالشباب، فأصبحت لا تزيد في مدلولها الاجتماعي عن مجرد فضاء خاص بالتفريخ والإنجاب، لا يقصده إلا من تشوفت نفسه ليصير أباً أو أماً، وكان قبل ذلك قادراً على دفع ضريبة سماعه كلمة "أبي"، "أمي"، لكن في المقابل تم إهمال مقصد الإشباع الغريزي والتحصين الشرعي، الذي لا يقل أهمية عن باقي مقاصد الأسرة وأهدافها النبيلة.
لذلك أتساءل: ما المانع أن يكون للأسرة صِيَغ شبابية جديدة، تتناسب وظروف الشباب، من غير إشعارهم بأي إحراج تجاه هذ الأمر، أو إشعارهم بأنهم ليسوا في المستوى المطلوب لتحمل مسؤولية الأسرة؟!
فلماذا لا نجد مثلاً زيجات للشباب والشابات لمجرد الإحصان الشرعي والإشباع الجنسي والاستقرار النفسي، وتُرجئ الإنجاب -إن كان هو الأكثر تكلفة- إلى وقت لاحق، يكون أكثر ملاءمة لظروفها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، على أن تستمر عائلة كل طرف في إعالته إلى حين إكمال تكوينه العلمي أو المهني، كما تفعل معه وهو في حال العزوبية؟!
وما المانع -إذا اقتضى الأمر- أن يظل كل من الزوجين يعيش في بيت عائلته مع توفر فضاءات خاصة تسمح بتواصلهما الجسدي في الوقت الذي تسمح به ظروفهما، كما لو أنهما ما زالا صديقين أو عشيقين في الخفاء؟!
ولماذا لا يكون هناك تعاون حقيقي بين الزوجين بخصوص تحمل نفقات الأسرة، ما دام كل منهما يزاول عملاً محترماً، ويتقاضى أجراً خاصاً به، بدل إثقال كاهل الزوج وحده، وإعفاء الزوجة من ذلك بشكل كلي، بل وإعطائها الحق باسم الدين والقانون في رفض تقاسم تكاليف البيت مع زوجها إن هي أرادت ذلك؟!
أطرح هذه التساؤلات لأننا فعلاً إذا ما رجعنا لتعريف الزواج بالمعنى الديني المجرد عن المعطى الثقافي البشري، نجد أنه ببساطة "عقد بين رجل وامرأة على وجه الدوام، يبيح لكل منهما الاستمتاع مع الآخر"، حيث يقف عند الركن الأكبر للأسرة، الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل، وهو "العقد الشرعي"، في حين يترك باقي الحيثيات الأخرى التي قد تختلف تبعاً لاختلاف ظروف الناس وأحوالهم الخاصة، ما يعني أن مفهوم الأسرة بالمعنى الديني مفهوم يمتاز بالمرونة والليونة، لدرجة أنه قادر على استيعاب مختلف ظروف الشباب المحروم.
فلو أُخِذ مفهوم الأسرة على هذا الوجه وتمت ممارسته في حياتنا الاجتماعية بهذا المعنى، فلا أعتقد أن تظل مشكلة الحرمان الجنسي قائمة لدى الشباب العربي، وسيكون ذلك أكبر دليل عملي على احترام دين الإسلام للطبيعة البشرية والغريزة الجنسية، وأن هدفه من ربط الجنس بالأسرة لم يكن في يوم من الأيام هو كبت الإنسان جنسياً، وإنما يتمثل أساساً في تنظيم حياة جنسية متزنة ومستقرة، تنعكس على الصحة النفسية والجسدية، وتحفظ النسل من الاختلاط.
أما أن تظل الأسرة هكذا مكبلة بعادات وتقاليد تحول دونها وتأدية وظيفتها الاجتماعية السليمة فغير معقول، وإلا سيكون مصيرها نفس مصير الأسرة الغربية، التي تم النفور منها واستهجانها، وتعويضها بالمصاحبة والمساكنة والعلاقات الرضائية التي لا توجد معها أي تعقيدات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.