كيف يمكن للعرب الاستفادة من تغيرات النظام الدولي بعد الحرب الروسية الأوكرانية؟ حرب القرم نموذجاً

عدد القراءات
2,129
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/17 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/17 الساعة 12:02 بتوقيت غرينتش
حرب القرم التي اندلعت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية

مع اندلاع الأزمة الأوكرانية وبدء الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية وتصاعد حدة المواجهات بين روسيا والغرب كثر الحديث عن إمكانية حدوث تغيرات على شكل النظام الدولي الحالي، الذي هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية عليه منفردة قرابة ثلاثة عقود، إلى أن بدأ عدد من القوى الدولية والإقليمية بانتهاج سياسة تعديلية رافضة لشكل النظام الدولي الحالي وهيمنة الولايات المتحدة والغرب عليه.

وتتباين وجهات النظر بين من يرى أن الحرب الحالية ستغير النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب أو حتى تراجع الغرب وظهور الصين وروسيا وغيرها كبديل عن الهيمنة الغربية، وبين من يرى أنه لن يكون لتلك الحرب أي تأثيرات على النظام الدولي، وأن الغرب يستهدف من هذه الحرب تدمير روسيا اقتصادياً من خلال إيقاعها في الفخ الأوكراني. والمسألة التي تثير كثيراً من النقاش هي: كيف يمكن لنا كعرب أو كدول العالم الثالث أو الجنوب الاستفادة من التحولات في النظام الدولي إذا حدثت؟

قبل الخوض في هذا النقاش لا بد أن أشير إلى أن التاريخ يشكل مختبر التحليل الخاص في العلاقات والسياسة الدولية، ففهم سلوك الدول وتعاملها مع بعضها يبنى على النماذج التاريخية للحالات المشابهة. وكذلك لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات الدولية تقوم على مبدأ المصالح فقط، فليس هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بين الدول، وإنما هناك مصالح متغيرة، كما قال ونستون تشرشل. 

وحتى نستطيع أن ندرك أثر الاختلاف بين القوى العظمى والكبرى على الدول الصغرى وعلى النظام الدولي بشكل عام، فلا بد أن نعود في التاريخ إلى الحرب التي غيرت وجه العالم وأسست النظام الدولي الحالي، لا أتكلم هنا عن الحرب العالمية الأولى ولا الثانية، وإنما عن حرب القرم عام 1853-1856 التي نشبت بين الإمبراطورية الروسية من جهة والدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى.

كان النظام الدولي قد استقر قبل اندلاع هذه الحرب على التسوية التي نتجت عن مؤتمر فيينا 1815 الذي جاء بعد هزيمة نابليون ووقف الحروب الفرنسية التي كان يشنها نابليون ضد القوى الأوروبية لنشر مبادئ الثورة الفرنسية، تقرر في هذا المؤتمر تحجيم النفوذ الفرنسي وتثبيت الوضع القائم في أوروبا ومنع تغييره. 

على أثر هذا المؤتمر قامت كل من الإمبراطورية النمساوية، التي كانت تعد أكبر قوة في أوروبا في ذلك الوقت، والإمبراطورية الروسية، وبروسيا بعقد تحالف أطلقت عليه "التحالف المقدس" الذي كان يهدف في الأساس لمنع تغيير الوضع الذي نشأ عن مؤتمر فيينا، كما كان للتحالف المقدس دور مهم في مواجهة التغيرات التي كانت تهدد نظام فيينا، مثل مواجهته لثورات الشعوب في أوروبا عام 1848.

 لم تنضم بريطانيا لهذا التحالف لاعتراضها على بعض مبادئه، ولكنها عقدت مع كل من روسيا وبروسيا والنمسا تحالفاً سُمي "التحالف الرباعي" الذي كان الهدف الأساسي منه هو تحجيم النفوذ الفرنسي.

في تلك الفترة كانت الإمبراطورية النمساوية تهيمن على معظم الولايات الإيطالية والألمانية، وتسعى الدول الأوروبية العظمى إلى الحفاظ على الوضع الراهن في أوروبا، ولكن في ذات الوقت كانت هناك أطماع استعمارية وتوسعية للدول الأوروبية.

 وكانت الدولة العثمانية ساحة تنافس مهم بين الدول الأوروبية التي كانت تسمى "رجل أوروبا المريض" أو ما عُرف بـ "المسألة الشرقية"، فبينما سعت روسيا إلى محاولة إسقاط الدولة العثمانية والاستحواذ على ممتلكاتها، كانت بريطانيا تسعى للحفاظ على وجود الدولة العثمانية حتى لا تسيطر عليها روسيا ويتوسع نفوذها على حساب النفوذ البريطاني.

في هذا الإطار، سعت روسيا إلى إجبار الدولة العثمانية على تقديم تنازلات لها لتعزيز نفوذها في الأراضي العثمانية، ولكن الدولة العثمانية رفضت، فغزت روسيا رومانيا التي كانت تتبع اسمياً للدولة العثمانية، فأعلن السلطان العثماني الحرب على روسيا في 1853.

 خشيت بريطانيا وفرنسا من انتصار روسيا على الدولة العثمانية فأعلنتا الحرب على روسيا في مارس/آذار 1854. وسُميت الحرب بحرب القرم نظراً لأن المعارك كانت تدور في البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، ولكن الحرب كانت حقيقة حرب نفوذ دولي وتوسع بين الدول الأوروبية وليست حرباً هامشية على القرم.

كان لكل دولة مصلحتها الخاصة في الدخول في الحرب إلى جانب الدولة العثمانية، فبريطانيا كانت تخشى من سيطرة روسيا على الدولة العثمانية وعلى مضيقي البسفور والدردنيل، أما فرنسا فنظرت للحرب على أنها فرصة للتحلل من القيود المفروضة عليها في مؤتمر فيينا واستعادة نفوذها الدولي.

من الملاحظ هنا أن الحرب بدأت بخلخلة النظام الذي أرساه مؤتمر فيينا بالسماح لفرنسا باستعادة دورها الدولي، وكذلك تفكك التحالف الرباعي الذي كانت بريطانيا وروسيا من أقطابه. ولكن الهزة الأقوى لتسويات فيينا كانت نتيجة وقوف النمسا، ومعها بروسيا أيضاً، على الحياد وعدم وقوفها مع حليفتها روسيا في حربها. كانت للنمسا أسبابها التي تدفعها للحياد، فهي لا تريد أن تحارب حليفتها روسيا من جهة، ولا تريد أن يتوسع النفوذ الروسي في البلقان الذي كانت لروسيا أطماع فيه من جهة أخرى.

أدى وقوف النمسا وبروسيا على الحياد إلى انهيار التحالف المقدس الذي كان عاملاً مهماً في الحفاظ على تسويات مؤتمر فيينا 1815.

لم يؤدِ وقوف النمسا على الحياد إلى انهيار التحالف المقدس فقط، وإنما كانت له نتائج مهمة على المدى البعيد أيضاً، ففي ذلك الوقت كانت الإمبراطورية النمساوية تسيطر على معظم الولايات الإيطالية والألمانية كما أسلفنا، وكانت النمسا أشد المعادين للوحدة الإيطالية نظراً لسيطرتها على معظم الولايات الإيطالية، وكذلك لخشيتها من مطالبة القوميات الأخرى التي كانت تسيطر عليها بالاستقلال في حال حصلت الولايات الإيطالية على استقلالها، ما يعني تفكك الإمبراطورية النمساوية.

كانت مملكة سردينيا الإيطالية، في ذلك الوقت، أقوى الولايات الإيطالية المستقلة اقتصادياً وعسكرياً وتحمل أفكار الوحدة الإيطالية، ولذلك طلب رئيس وزراء مملكة سردينيا الكونت كافور (رائد الوحدة الإيطالية) المشاركة في الحرب إلى جانب فرنسا بريطانيا على أمل حصوله على دعمهما في مسألة الوحدة الإيطالية، لم تستجب له فرنسا وبريطانيا مباشرة، خشية من إغضاب النمسا، إلا أنهما عادتا وافقتا على دخول سردينيا الحرب في ظل إصرار النمسا على الحياد وعدم محاربة روسيا، ودخل الجيش السرديني الحرب وأبلى فيها بلاءً حسناً.

في عام 1855 توفي القيصر الروسي نيقولا الأول خلال الحرب وخلفه القيصر إسكندر الثاني الذي مال للسلام في ظل عدم قدرة روسيا على الانتصار، وفي 1856 توصلت القوى المتحاربة إلى اتفاقية باريس التي استسلمت روسيا بموجبها ووضعت الحرب أوزارها.

كان لحرب القرم نتائج مؤثرة جداً على النظام الدولي الذي ساد بعد مؤتمر فيينا 1815، فقد أدت الحرب إلى انتهاء حقبة السلام الأوروبي المبنية على ترتيبات مؤتمر فيينا، وكذلك أدت إلى انهيار التحالف المقدس الذي كان أحد الضمانات لاستمرار التوازن الأوروبي، وكذلك انهيار التحالف الرباعي.

 ومن ناحية أخرى، ذهبت روسيا، لتعويض خسارتها نتيجة لهزيمتها في أوروبا، إلى  الاستيلاء على بلاد آسيا الوسطى والشرق الأقصى، وقد كان لذلك دور مهم في دخولها في حرب مع اليابان عام 1904-1905 وهزيمتها أمامها، وسيكون لهذه الهزيمة فيما بعد دور مهم في الثورة على القيصر الروسي ونشوء الاتحاد السوفييتي.

ومن جانب آخر، أضعفت هذه الحرب الدولة العثمانية وأغرقتها في الديون العثمانية وأدت إلى فرض قيود أوروبية كثيرة عليها في مناطق نفوذها. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعطت هذه الحرب دفعة قوية لحركة الوحدة الإيطالية، فكما أسلفنا دخلت مملكة سردينيا الحرب بغية الحصول على دعم فرنسا وبريطانيا في تحقيق الوحدة الإيطالية، وقد مكنها ذلك من المشاركة في مؤتمر باريس وعرض مطالبها الوحدوية خلاله.

كانت مشاركة سردينيا في الحرب وجملة التغيرات التي نتجت عن حرب القرم هي الخطوات الأولى على طريق الوحدة الإيطالية، ولكن مواقف الدول الأوروبية كانت تتباين حيال الوحدة الإيطالية، فقد كانت بريطانيا لا تؤيد الوحدة الإيطالية، لاعتقادها بأن وجود الإمبراطورية النمساوية عامل مهم في التوازن الدولي، ولكن وجهة نظرها تغيرت لأنها اعتقدت أن وجود دولة إيطالية موحدة سيعمل على الحد من النفوذ الفرنسي في البحر المتوسط، الذي كانت بريطانيا تخشى من تزايده وتراه خطراً على نفوذها. 

وأما فرنسا، فقد كانت تؤيد الوحدة الإيطالية لأنها كانت تعتقد أنها ستضعف النفوذ النمساوي، وإضعافه سيهز بقوة التسوية الإقليمية المقيدة للنفوذ الفرنسي التي وضعت في مؤتمر فيينا، كما أنها كانت تعتقد أن الوحدة الإيطالية ستكون ضعيفة وخاضعة للنفوذ الفرنسي.

استفاد كافور من التناقضات الموجودة بين الدول الكبرى ومن سعي كل منها لتحجيم نفوذ الأخرى، ولكن الوحدة الإيطالية لم تحدث مباشرة نتيجة لحرب القرم، وإنما مرت بعدد من التطورات والمراحل المهمة، فقد تحالفت سردينيا مع فرنسا ضد النمسا مستغلة التناقض بينهما لاسترجاع بعض الولايات الإيطالية من النمسا.

 لم يتحقق ما كانت سردينيا تصبو إليه نتيجة التصالح بين فرنسا والنمسا وإنهاء الحرب بينهما، ولكن سردينيا استطاعت أن تسيطر على عدد من الولايات الإيطالية، وبذلك تكون ظهرت دولة إيطاليا إلى الوجود رغم عدم سيطرتها على بعض الولايات الإيطالية، ولكن الإيطاليين استمروا في تحقيق الوحدة.

كان لمسيرة الوحدة الإيطالية دور في تحفيز حركة الوحدة الألمانية، فقد بدأت مملكة بروسيا بالعمل على تحقيق الوحدة الألمانية في ذات الفترة. كانت مملكة بروسيا، على غرار سردينيا، أقوى وأكبر الولايات الألمانية، وقد عمل المستشار الألماني بسمارك، الذي بدأ بالاستعداد لتحقيق الوحدة الألمانية السياسية، على بناء جيش بروسي من أقوى الجيوش في أوروبا، ولكن كما هو الحال مع إيطاليا، كانت النمسا وفرنسا تعارضان الوحدة الألمانية، فقد كانت النمسا تسيطر على معظم الولايات الألمانية، ولم تكن فرنسا راغبة في وجود دولة ألمانية قوية على جوارها.

لتجاوز هذه العقبات، عقد بسمارك تحالفاً عسكرياً مع دولة إيطاليا الناشئة حديثاً لمحاربة النمسا مقابل حصول إيطاليا على ولاية البندقية التي ظلت خاضعة للنمسا، كما عقد تفاهمات مع فرنسا لتحييدها عن دعم النمسا في الحرب، كانت لفرنسا مصلحة في الحرب بين النمسا وبروسيا لأنها كانت تعتقد أن الحرب ستضعهما معاً. وكذلك عقد بسمارك تفاهمات مع روسيا لتحييدها عن الوقوف مع النمسا في الحرب، وافقت روسيا على ذلك لرغبتها في معاقبة النمسا على موقفها في حرب القرم، وكذلك لتحجيم النفوذ النمساوي في البلقان.

دخلت بروسيا الحرب ضد النمسا بالتحالف مع إيطاليا وتمكنت من هزيمتها، لم تتحقق الوحدة الألمانية بشكل كامل بعد هزيمة النمسا، ولكن النمسا بعد هزيمتها ضعفت ودخلت مرحلة التراجع. وعقب ذلك توجه بسمارك لمحاربة فرنسا التي كانت تقف ضد الوحدة الألمانية، فهزمها، وأعلن الوحدة الألمانية.

ويمكن القول إن حرب القرم كانت حرب الكل ضد الكل بناء على اعتبارات المصلحة الذاتية، كما أنها كانت حرباً مفصلية في تشكيل النظام الدولي المعاصر الذي نشهده اليوم، فلو لم تحدث الحرب لربما لم ينهر نظام فيينا ولما تحققت الوحدتان الإيطالية والألمانية، ولو لم تتحقق الوحدة الألمانية لما حدثت الحربان العالميتان الأولى والثانية.

وعليه فالحروب التي تؤدي إلى جملة من التناقضات بين الدول الكبرى، أو التي تؤدي إلى إظهار التناقضات على السطح يكون لها تأثير مهم على النظام الدولي والسياسة الدولية، حتى لو لم يكن هذا التأثير واضحاً في البداية، ولذلك فالأزمة المتصاعدة بين روسيا والغرب حالياً، التي تتشابه في بعض جوانبها مع حرب القرم، من المرجح أن يكون لها تأثير كبير على النظام الدولي الحالي.

صحيح أن حرب القرم تختلف عن الأزمة الحالية، فالدول الغربية لم تدخل في حرب فعلية مع روسيا، ولكن من المهم الإشارة إلى أن الحرب موجودة فعلياً بالوسائل الاقتصادية، التي هي جزء من القوة الصلبة للدول، ويعمل كل طرف حالياً في استقطاب الحلفاء لدعمه في هذه الحرب الاقتصادية، فالولايات المتحدة بدأت بالبحث عن بدائل للنفط والغاز الروسي لدى دول الخليج وغيرها، فيما تبحث روسيا عن دول تدعمها في مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية.

وفي المجمل، فإن التاريخ السياسي الحديث والمعاصر يظهر لنا أن الدول كيانات تبحث عن مصالحها فقط، فلا الصين ولا روسيا ولا الغرب سيكون حمامة سلام ومنقذة للعالم مقدمة للمبادئ والمثل على مصالحها الخاصة.

 ويظهر لنا أيضاً أن الاضطرابات التي تحدث بين الدول الكبرى تشكل فرصة للدول الصغرى والمتوسطة لتحقيق مصالحها هي أيضاً، ولكن ذلك يحتاج إلى أمرين مهمين، وهما: القدرة على استغلال وتوظيف التناقضات بين الدول الكبرى واللعب على وترها، والأهم من ذلك أن تكون لدينا أوراق القوة التي نستطيع استخدامها وتوظيفها لتحقيق مصالحنا. وفي ضوء ذلك يمكن لنا أن ندرك كيف ستؤثر الحرب الروسية الأوكرانية علينا كعرب ودول عالم ثالث.

المعلومات التاريخية الواردة في المقال مستقاة من كتاب تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين، محمد السيد سليم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كريم قرط
باحث في الدراسات السياسية والاستراتيجية
باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية برام الله
تحميل المزيد