عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في العام 11هـ/632م، بدأ عصر جديد يُعرف في التاريخ الإسلامي بعصر الخلفاء الراشدين، وهو عصر تميّز بتنوع وغزارة وأهمية أحداثه، ذلك أنه ما انجلت أحداث الردّة الأولى في عصر الخليفة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، إلا وأُمرت القوات الإسلامية بقيادة الصحابة بالانطلاق صوب العراق والشام، فالعراق كان ضمن أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية، التي حكمها الأكاسرة الفرس على مدار قرون، وأما الشام فكانت من جملة أراضي الإمبراطورية الرومانية البيزنطية الشرقية، التي حكمها الروم (اليونان والسلاف) على مدار قرون.
وكانت الفتوحات الإسلامية الأولى المتزامنة على كلتا الجبهتين العراقية والشامية، وضد أعتى الإمبراطوريات العالمية وقتَها بمثابة معجزة عسكرية، فعلى الجبهة العراقية سُحق الفُرس والمتعاونون معهم من القبائل العربية، سكان تلك النواحي، في معارك العراق وإيران، كما حدث في معارك الأبلة وعين التمر والولجة وأليس والحيرة والأنبار ودومة الجندل والحصيد والجسر والبُويب والقادسية والمدائن وجلولاء وتكريت والموصل، ثم الدخول في عمق إيران، وتحقيق انتصارات الأحواز ونهاوند وهمذان وأصبهان والري وطبرستان، وحتى بلوغ خراسان على حدود وسط آسيا.
عبد الرحمن بن ربيعة وسراقة بن عمرو
استمرت معارك العراق وفتوحاته ما بين 12هـ إلى عام 16 (633-637م)، وعلى الجبهة الشامية استمرت في الفترة عينها، حتى قرر المسلمون التوسع في عمق فارس منذ عام 22 هجرياً، وشمال إفريقيا بدءاً من مصر منذ عام 20هـ، لكن لاستثمار هذه النجاحات العظيمة قرر المسلمون أن يُنشئوا قواعد عسكرية دائمة لهم في كل العراق وبلاد الشام، ولتحقيق هذه الغاية شرعوا في بناء الكوفة والبصرة في جنوب العراق منذ عام 17هـ/638م.
وكان عتبة بن غزوان المازني الصحابي البدري من جملة قادة فتح العراق، وهو الذي فتح الأُبُلّة في أقصى جنوب العراق، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدره، وقد رأى بحنكته ضرورة بناء مدن عسكرية للجنود والفاتحين المسلمين، حينها أرسل إلى عمر يقول له: "إنه لا بدّ للمسلمين من منزل إذا أشتى شتوا فيه، وإذا رجعوا مِن غزوهم لجأوا إليه، فكتب إليه عمر: أن ارتد لهم منزلاً قريباً من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته، فكتب إلى عمر: إني قد وجدت أرضاً كثيرة القضّة (الحصى والحجارة) في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وقصباء". على ما يذكره ياقوت الحموي في "معجم البلدان". وحين أتم المسلمون بناء الكوفة والبصرة، واستقروا فيها، أصبحت عواصم أو منطلقات للفتوحات التالية في إيران وأذربيجان وأرمينية والقوقاز الجنوبي والشمالي وحتى جنوب روسيا.
ولئن بزغ نجم خالد بن الوليد والمثنّى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي والأشعث بن قيس وغيرهم في الجبهة العراقية الفارسية وفتوحاتهم وتضحياتهم وقيادتهم الباهرة، فقد بزغ أيضاً في الصف الثاني مع هؤلاء العمالقة رجال آخرون أصبحوا فيما بعد قادة الفتح الإسلامي في إيران والقوقاز وجنوب روسيا، رأينا منهم سراقة بن عمرو وعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.
فأما سراقة بن عمرو فيختلف عن الصحابي البدري الجليل سراقة بن عمرو الأنصاري، الذي استُشهد في غزوة مؤتة عام 8هـ، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما نعرفه عن سراقة بن عمرو أنه لُقب بذي النور، وكان عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي عضداً ومرؤوساً لسراقة في فتح القوقاز وجنوب روسيا، بل اللافت أنه كان يُلقب أيضاً بـ"ذي النور"، ولعل لهذا اللقب قصة توضح لنا تواضع الرجلين، وحسن أخلاقهما، وتقواهما وشيوع ذلك بين الناس.
لقد رأينا في مصادر التاريخ الإسلامي المبكرة أدواراً مهمة لعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الأخيرة من عُمره الشريف، بيد أنه لم يروِ عنه، وحين وقعت معركة القادسية الشهيرة أثناء فتوحات العراق سنة 15هـ/636م بقيادة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، كان الخليفة عمر بن الخطاب قُبيل اندلاع هذه المعركة الفاصلة قد قرر تعيين عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي قاضياً للجيش، بل وعهد إليه فوق ذلك بتقسيم الغنائم والفيء بعد الظفر، كما يذكر المؤرخ والحافظ ابن عبد البر الأندلسي في تأريخه للصحابة، المعروف بـ"الاستيعاب في معرفة الأصحاب"، بل ذكر الطبري في تاريخه أن عبد الرحمن كان فوق هذه المهام على رأس كتيبة من كتائب المسلمين يوم القادسية، وهذا يؤكد لدينا أن عبد الرحمن بن ربيعة كان من الصحابة العلماء المشهورين بعلمهم وتقواهم، ليختاره الخليفة عمر لهذه المهمة الكبيرة.
الطريق إلى القوقاز
ولقد تفاجأ الصحابة باشتراك الأذريين (سكان أذربيجان) والأرمن مع الفرس في معارك العراق وإيران، بل وفي معارك الجبهة الشامية أيضاً داعمين للبيزنطيين، ولذلك حين انتهوا من تأمين الجبهة الإيرانية وفتحها بعد معركة نهاوند سنة 21هـ/641 اتجهت أنظارهم إلى فتح المناطق الشمالية في القوقاز، لا سيما أذربيجان وأرمينية، ولهذا السبب أصدر الخليفة عمر أوامره بتجهيز جيشين لفتح أذربيجان وأرمينية، الأول بقيادة نعيم بن مقرن وقد خرج من العراق وإيران، والثاني بقيادة الصحابي عتبة بن فرقد وقد خرج من بلاد الشام.
حقق جيش الصحابة القادم من العراق وإيران بقيادة نعيم بن مقرن انتصاراً عظيما على الأذريين وفلول الفرس والأرمن في معركة فاصلة، عرفت باسم معركة "واج روذ" في عام 21هـ، أُسر فيها قائد أذربيجان الفارسي اسفنديار، كما تمكن الجيش القادم من الشام بقيادة عتبة بن فرقد بسحق فلول المقاومة الأذرية في المناطق الغربية من البلاد، وحينها اضطر الأذر إلى إعلان الخضوع والتبعية ودفع الجزية للمسلمين، وقد جاء في نص المعاهدة التي وقّعها باسم الخلافة الصحابي والفاتح عتبة بن فرقد:
"بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أهل أذربيجان -سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها- كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومِللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخلٍّ ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قَرى (ضيافة) المسلم من جنود المسلمين يوماً وليلة ودلالته".
تمثلت الخطوة التالية عقب فتح القوقاز الجنوبي في تأمين عملية الفتح والقضاء على فلول المقاومة، وحين تمت هذه العملية، -التي شابها بعض اضطرابات وتخلي الأذر عن العهود والمواثيق التي أُبرمت معهم، ما استلزم مجيء دعم عملياتي وعددي من قواعد المسلمين الخلفية في البصرة والكوفة- وحين أدرك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه خضوع القوقاز الجنوبي للمسلمين بصورة تامة، أصدر أوامره بانطلاق جيوش الفتح الإسلامية شمالاً صوب داغستان والشيشان وغيرها من مناطق القوقاز الشمالي، والتي كانت تُعرف آنذاك بالباب أو "باب الأبواب" وأهم ولاياتها كانت تُسمى "دربند" التي تتبع اليوم دولة داغستان القوقازية في جنوب روسيا.
فتوحات جنوب روسيا
كانت تلك المناطق تخضع في السابق لحكم الدولة الساسانية، وحين سقطت هذه الدولة في العراق وإيران، بقيت الولايات الشمالية في القوقاز شبه مستقلة تحت أيدي ولاتها مثل إسفنديار في أذربيجان التي سقطت منذ قليل بأيدي المسلمين، أما حاكم الباب "داغستان والشيشان" فكان يُسمى شهرَبْزار، وقد أمر الفاروق رضي الله عنه أن يُعيَّنَ سراقة بن عمرو الشهير بـ"ذو النور" قائداً أعلى لفتح هذه المناطق، وأن يكون عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي الشهير أيضاً بـ"ذو النور" مساعداً له وقائداً للجيوش، وحين أيقن شهربزار أن قواته لن تصمد أمام قوة واندفاعة الجيوش الإسلامية التي انتصرت في كل معاركها السابقة أعلن قبول الأمان ودفع الجزية والتبعية المطلقة للمسلمين.
لم تتوقف فتوحات المسلمين عند الشيشان وداغستان، بل امتدت إلى مناطق جورجيا "تفليس" وأوسيتيا الجنوبية والشمالية "اللان"، واللافت أن المسلمين احترموا الحرية الدينية وعقائد أهل هذه المناطق، وكان أغلبها على المسيحية، ولم يتدخلوا فيها كما لم يتدخلوا في أديان وعقائد أهل البلاد الأخرى التي فتحوها.
وفي أثناء توغل ونجاح هذه الجيوش في السيطرة على مناطق القوقاز الخاضعة اليوم لحكم روسيا، تُوفي القائد العام سراقة بن عمرو الشهير بذي النور في أواخر عام 22هـ/642م، وكان قد استخلف قُبيل وفاته عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وحين بلغت هذه الأنباء مسامع الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة النبوية، أقرَّ عبدَ الرحمن بن ربيعةَ في منصبه الجديد والياً وقائداً عاماً لمناطق القوقاز الشمالية في جورجيا وداغستان وأوسيتيا والشيشان وغيرها، بل أصدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوامره لعبد الرحمن باستمرار التوغل وفتح المناطق الشمالية التي كانت تُسمى آنذاك مملكة الخزر.
يؤكد المؤرخ البريطاني دوغلاس م. دنلوب في كتابه القيم "تاريخ يهود الخزر" أن الخزر الذين استوطنوا المناطق الواقعة فيما بين حوض الفولجا الأدنى شمال بحر قزوين وشمال القوقاز وحتى جزيرة القرم وأوكرانيا بل وشرق أوروبا ما بين القرنين السادس وحتى العاشر الميلادي، تعود أصولهم إلى الأتراك المهاجرين من وسط آسيا، وقد عرّفتهم المصادر التاريخية والبُلدانية الإسلامية المبكرة بـ"الأتراك"، بل قسّمتهم إلى "الأتراك السود" و"الأتراك البيض" وهؤلاء البيض كانوا يمثلون الطبقات الاجتماعية الأعلى شأناً ومكانة، كما كشفت لنا بعض هذه المصادر عن نفوذ مملكة الخزر الذي كان يبلغ في بعض الأوقات من وسط آسيا إلى مناطق شمال قزوين وحتى أوروبا الشرقية، في وقت كان الروس فيه مجموعة من القبائل الوثنية البدائية والهمجية في أقصى الشمال الغربي عند موسكو وغيرها.
ولهذا السبب يضع المؤرخون المسلمون في تأريخهم لغزوات عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي في هذه المناطق من جنوب روسيا، والتي استمرت 10 سنوات كاملة ما بين عامي 22- 32هـ/642- 652م عنوانَ "أول غزو الترك" كما نرى عند المؤرخ والحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية".
يقول ابن كثير: "أول غزو الترك؛ وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تُقاتلوا قوماً عراض الوجوه، دُلف الأنوف، حُمر الوجوه، كأنّ وجوههم المَجان المطرَقة"، وفي رواية "ينتعلون الشَّعر". لما جاء كتابُ عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزوَ التُّرك سار حتى قطعَ الباب "داغستان" قاصداً لما أمره عُمر، فقال له شهرَبْزار (أمير داغستان): أين تُريد؟ قال: أريد ملك التّرك بَلنجر، فقال له شهربزار: إنا لنرضى منهم بالموادعة ونحن من وراء الباب".
ونفهم من سياق هذه المحادثة التي جرت بين أمير داغستان شهربزار وبين القائد والصحابي عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي النصح الواضح من أمير داغستان، بعدم الهجوم على أتراك مملكة الخزر؛ نظراً لما اشتهروا به من قوة الشكيمة والبأس وانتصارهم على معظم جيرانهم، واتساع حدود مملكتهم من وسط آسيا وحتى شرق أوروبا، حتى اشتُهر بحر قزوين في تلك الأثناء ببحر الخزر رمزاً لهذه السيادة.
بيد أن ابن ربيعة لم يقبل نصيحة أمير داغستان، وأصر على إنفاذ أوامر الخليفة عمر بن الخطاب بغزو هذه المناطق، والتوغل شمالاً والاستيلاء على أهم مدن الخزر في بلنجر والبيضاء وسمندرة، ولعلها مقاطعات أستراخان وإسترافوبول في جنوب روسيا اليوم، قائلاً: "إن الله بعث إلينا رسولاً، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتلَ التُّرك وسار إلى بلاد بلنجر مئتي فرسخ".
وإذا صدّقنا الرواية التاريخية الإسلامية التي تقول إن عبد الرحمن بن ربيعة توغل من داغستان شمالاً مسافة مئتي فرسخ أي 950 كيلومتراً تقريباً، فإن هذا يشير إلى بلوغ قوات الفتح الإسلامي حتى إقليم فولغوغراد، الواقع في وسط جنوب روسيا اليوم، وربما أبعد من ذلك، وهي مسافة تبين لنا أن الجيوش الإسلامية قد وطئت القارة الأوروبية والأراضي الروسية، قبل حتى أن يحلم بها الروس أنفسهم في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك قبل فتح الأندلس بسبعين عاماً.
ومهما يكن من أمر، فقد فوجئ الخزر الأتراك وخاقانهم بهذا الهجوم الإسلامي، الذي لم يعهدوه، بل وبالهزائم المتكررة على يد عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي وجنوده، حتى أُثر عنهم، فيما ذكره العلامة الطبري في تاريخه "تاريخ الرسل والملوك"، أنهم كانوا يقولون: "ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعه الملائكة تمنعه من الموت، فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظفر، وذلك في إمارة عمر، ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر".
لقد ظن الخزر -وكانوا على الديانة الشامانية الوثنية القديمة آنذاك- أن المسلمين قوة لا تُقهر، وأنهم لا يموتون كما يموتون، ولهذا السبب المعنوي كانوا ينهزمون أمامهم، حتى أرادوا التأكد من هذه الخرافة، فكمنوا في الغابات القريبة من المسلمين، واستطاعوا أن يقتلوا واحداً منهم، وعند ذلك ذهبت تلك الخرافات عنهم، ولهذا السبب بدأ الأتراك الخزر سكان جنوب روسيا آنذاك في مقاومة المسلمين بشراسة وشدة، حتى جاءت المعركة الأخيرة في شهور عام 32هـ/652م.
في تلك المعركة وقع عبد الرحمن بن ربيعة رضي الله عنه شهيداً، "واجترأ الترك بعدها، ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن (قديساً لهم)، فهم يستسقون به حتى الآن". كما يروي الطبري في تاريخه، وهو المؤرخ الذي جاء بعد تلك الأحداث بقرنين وبعض قرن، أي إن جسد عبد الرحمن رضي الله عنه ظل لعقود متطاولة محل تقدير وتقديس للخزر، وبهذا انتهت قصة محاولات فتح المسلمين الناجحة لجنوب روسيا بقيادة أعلام كبار، لم نعتد على ذكر وسماع أسمائهم، لتأتي وقائع الأزمة الروسية الأوكرانية اليوم فتجعلنا نعيد من جديد التنقيب والتأمل وكشف الأستار عن سير أعلام هؤلاء النبلاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.