من بين كل صور الدمار والقتل التي شاهدتُ في حرب يوليو/تموز 2006، لا تزال صورة تلك المرأة "إنعام نور الدين" عالقة بالذهن، فأتساءل أحياناً وقد بلغت الآن ستين عاماً: هل حققت حلم الإنجاب؟
ستظل صورة تلك المرأة الصامتة في سريرها بمستشفى الحياة ببيروت أكثر الصور مأساوية، من مشاهد الأحياء المخربة والعمارات المنهارة، لا بل حتى من صور التوابيت التي كانت تبحث عن أصحابها فلم يعثر الناس على جثثها التي بددتها القنابل الفراغية الإسرائيلية تحت ركام بيوت صارت غباراً في مدينة المسيح قانا.
1- عندما تغتال صواريخ تل أبيب أطفال الأنابيب
في ليلة 7 آب/أغسطس 2006، سقط صاروخ إسرائيلي على شارع الحجاج بحي الشياح، في الضاحية الجنوبية لبيروت، مخلفاً 56 قتيلاً أغلبهم أطفال ونساء، أما السيدة إنعام نور الدين، 40 سنة، فقد نجت من القتل، لكنها كانت تموت ببطء في سريرها بالطابق الثالث بمستشفى الحياة. قالت لي: "أدت قوة النسف لذلك التفجير القوي الذي وقع في عمارة مجاورة، إلى صدمة نفسية، فمات توأم في بطني، كنت أنتظر منذ سنوات طفلاً واحداً، فرزقني الله باثنين، ثم وقبل شهر من الفرحة الكبيرة، أُجهض الحلم أو الحلمان اللذان حملتهما في بطني. مات التوأم وانتهى الجنينان قبل أن يريا النور وقبل أن أراهما لحظة واحدة، في رمشة قذيفة إسرائيلية".
قبل سبع سنوات من تلك اللحظة المدمرة كانت الشابة إنعام قد تزوجت عن حب الشاب إسماعيل الأخرص، ببلدة برج علوية، بقضاء بنت جبيل الحدودية. ولأن القدر لم يطاوعهما بعد سبع سنوات من القرآن، فقد قررا رغم قسوة الحياة الاجتماعية تجريب الإنجاب عبر طريقة التلقيح الاصطناعي والإنجاب عبر تقنية أطفال الأنابيب. فشلت أول عملية لها بمستشفى مركز حسن الفقيه بشارع الحمرا وسط بيروت، بيد أنها لم تيأس من تحقيق غريزة الأمومة، فأعادت الكرة من جديد بمبلغ 5000 دولار أخرى، ثم إنها بكت من الفرحة بعدما أكدت لها الكشوف بالأشعة أن بطنها يحمل جنينين لا مولوداً واحداً.
على مدار ستة أشهر، عاشت إنعام وإسماعيل أحلاماً سعيدة؛ إذ دأب الزوجان يتحدثان طويلاً عن لباس الولدين المنتظرين، ثم يتجادلان حول الاسمين المختارين لهما، ثم وقبل شهرين كانت تنزل بنفسها إلى السوق لتشتري ألبسة وأغراضاً كأنها تسابق الزمن من أجل تلك اللحظة الجميلة. ثم جاءت حرب تموز ولم تبطئ أن وجدت نفسها بين آلاف النازحين من المعارك الحدودية الضارية، فلم تتردد للحظة في الاستقرار بحي الشياح بالضاحية الجنوبية لبيروت، لا تنفيذاً لرغبة زوجها الملحَّة ولا حتى للنجاة بنفسها، بل إنقاذاً للتوأم الذي بدأ يدب في أحشائها.
ظنَّت أنها في مأمن حتى وجدت نفسها طريحة الفراش، بلا حمل، تقول: "كل شيء راح. لا أعرف إن كنت قادرة على تكرار الحلم ثانية، لم يعد لنا بيت، لقد تهدم في تلك الغارة، وليست لنا أموال تجعل الأمر قريب المنال. أمضيت سنوات طويلة في مداعبة ذلك الحلم، حلم الإنجاب والأمومة، ويبدو أنني سأمضي بقية العمر في مقاومة ألم موت ذلك الحلم".
في واقع الحال نجت تلك المرأة من القتل بآلة الدمار الإسرائيلية، لكنها ستعيش لسنوات أخرى حاملة بالألم المميت، وآثاره النفسية عندما حولت قنبلة ذكية تقنيةً وغبية إنسانياً، رَحِمَها الذي كان مهداً يتحرك بتوأم إلى قبرين نائمين بين أعماق الأحشاء وفي تلافيف الذاكرة الأمومية.
لم يحمل التوأم المجهض الاسمين قبل ولادته، لكن مأساة أخرى في غزة العام 2014، ستصنع الحدث إنسانياً، عندما اهتز بيت عائلة خماش على وقع صاروخ إسرائيلي، لحظة تهيُّئها للنوم، ثم صحا الزوج في مساء اليوم التالي في سرير المستشفى، سأل عن زوجته الحامل وابنته بيان، ثم انهار باكياً عندما أخبر أنهم ارتقوا إلى السماء، لقد أصيب جزء من العالم بعاطفة التأثر؛ لأن صوراً أظهرت لعباً ودُمَى وعرائس الطفلة الشهيدة بيان البالغة من العمر سنة ونصف السنة، ثم رسائل دوَّنتها زوجته إيناس لرضيعتها عبر صفحتها في الفيسبوك قبل وقوع الكارثة:
"ابنتي كوني بقربي دائماً، خفِّفي من ضجيج الحياة، بصوتك أخبريني أنه لا شيء سيئ وأنت بالقرب منِّي" و"ابنتي ارمِ حملكِ عليّ ما دمتِ تثقينَ بي فأنا لأجلك سأصنع أي شيء".
وطبعاً فإن العالم الآخر، المحكوم بالعنصرية الغربية؛ حيث هو المركز وباقي العالم أطراف سيذهب ضحية "عنصرية الصورة"، فهو لن يشاهد هذه المآسي في المجلات والقنوات التلفزيونية، كي لا تفشل مخططات الساسة ولا ترتد الأهداف الكبرى التي تتحاشى في بياناتها الإيغال في التفاصيل وتكتفي بالإعلان عن إصابة أهداف مجرد أهداف بلا روح أو دماء أو أشلاء مدنيين من نساء وأطفال وُلدوا، أو لم يولدوا بعد.
2- الحوامل ينقلن التوتر للأجنة.. ومواليد مهددون بتشوهات أبدية
تعتبر اتفاقيات جنيف الرابعة الصادرة العام 1949 أو متعلقاتها المكتملة في العام 1974، أن النساء والأطفال هم أطراف مدنية تجب حمايتهم من طرف جميع الجهات موضع النزاع، فيما تدلل المادة السادسة عشرة من إعلان اتفاقية جنيف على "حماية النساء الحوامل" وتضعهن في نفس مرتبة الجرحى والمرضى والعجزة، كما تنص على ضرورة استفادة النساء الحوامل والنساء المرضعات على توفير النقل والإقامة بعيداً عن بؤر النزاع والعنف والصدمات، ومنحهن حصص غذاء إضافية لمعالجة الهشاشة الناجمة عن فترة الحمل وما بعده، وحرصاً على سلامة الرضيع والطفل بعيداً. لا تنطلق هذه البنود من فراغ بل ترتكز على حقائق علمية، مثل التي أوردها خبراء صحة واكبو حملة منظمة "سايف شيلدرن" المتمركزة ببريطانيا والتي تؤكد طبياً أن "الجنين يعتبر هرمونات الإجهاد لدى الأمهات على أنها معلومات "تنبؤية" عن حالة العالم الخارجي"؛ لذا فإن كل التوترات الذهنية والعصبية والاكتئاب الراهن أو ما بعد الصدماتية التي تشعر بها المرأة في حالة الخطر، كما أوضحت معلومات أن المرأة الحامل أو حديثة الولادة أقل تفاعلاً عاطفياً مع رضيعها من حيث اللمس الناقل للحنان الذي يحتاجه، مع أنها تطور رغبة كبيرة في رعايته وحمايته.
نشر نيكولاس ماهو، الكاتب المتخصص في علم النفس العصبي وعلم الأعصاب الإدراكي، قبل أيام مقالاً واكب تأثير الحرب على النساء والأطفال الأوكرانيين، نُشر في 4 مارس/آذار الجاري بمجلة العلوم والمستقبل، يؤكد فيه أنه وفقاً لتجارب أجريت العام 2014 على نساء فلسطينيات حوامل تعرضن لصدمات عنيفة خلال الغارات الإسرائيلية على غزة، فقد ثبتت "تداعيات سلبية على العلاقة العاطفية بين النساء المصابات عقلياً بشدة وأطفالهن الرضع. تم تحديد تغيير العلاقة الذي يؤدي بالتالي إلى حدوث اضطرابات في التطور المتأخر للطفل، بينها الصعوبات الإدراكية والحركية والاجتماعية والعاطفية، التي تبرز عند بلوغهم سن 18 شهراً".
ولئن بات من البداهة الطبية المعروفة اليوم أن الحرب لا تصيب البشر بالموت أو التشويه العضوي، بل تصيب النساء الحوامل بصدمات تنتقل للأرحام مسببة للأجنة أخطاراً بعدية، مثل الاختلال الجيني والوظيفي وتشوّهات خِلقية كالتصاق الأطراف وشق الحنك والشفة، وتشوهات قلبية في الصمامات أو انعدام كلي لدماغ الجنين المعروف علمياً بـ "الأونسيفاليا"، لكن أخطر محذور هو تفادي إصابة النساء في مناطق النزاع بصدمات تسبب لهن الأمراض العصبية التي تعني آلياً نهايتها السوية ونهاية طفلها بالعلاقة المتعدية.
3- الحروب القذرة تلتهم بنود اتفاقيات جنيف الشهيرة
تظل البنود الدولية المستندة لاتفاقيات جنيف أو التي ترفعها المنظمة العالمية لحماية الطفولة حبراً على ورق، فالدماء تكتب الواقع بشكل مغاير على أرض المعارك، إذ تبدو كما لو أنها ممهلات فقط للتخفيف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فأولئك الزعماء الذين يرفعون أحياناً شعار "الحروب النظيفة"، ويتبعهم قادة الجيوش بنظريات "صفر قتيل"، من خلال القصف الجوي واستعمال المسيّرات والصواريخ، دونما اكتراث بالنتائج يدللون على أن كل الحروب قذرة؛ لأنها ذات طابع فجائي وغير متوقع، فيكفي أن تشعل الحريق لتتكفل الرياح بالبقية.
في واقع الحال، تكشف أرقام منظمة إنقاذ الطفولة "سايف شيلدرن" البعد المخفي لما وراء الحروب البشعة، فعلى مدى السنوات العشر الماضية، عاش حوالي 250 مليون طفل دون سن الخامسة في بلدان متأثرة بالنزاع المسلح، ووفقاً لتقرير نُشر في عام 2019 ونفذته المنظمة: "يعيش ما يقرب من طفل من بين كل خمسة أطفال في مناطق متأثرة بالنزاع المسلح والحرب في أي وقت منذ أكثر من 20 عاماً" قبل أن تزلزل العالم برقم مفزع أفصحت عنه في المؤتمر الدولي للأمن، المنعقد بميونيخ الألمانية، في فبراير/شباط 2019، أمام ممثلين سياسيين وعسكريين جاؤوا من أربعين دولة، لما صاحت: يموت 100.000 رضيع سنوياً جراء الحروب.
4- نصف مليون رضيع ماتوا جراء الحروب خلال أربع سنوات
وفقاً لهذه المنظمة غير الحكومية، فقد مات ما لا يقل عن 550 ألف طفل بين أعوام 2013 و2017 في البلدان العشرة الأكثر تضرراً من الحروب، وهي أفغانستان واليمن وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وسوريا والعراق ومالي ونيجيريا والصومال، بسبب الجوع أو الافتقار إلى النظافة أو الحصول على الرعاية الصحية، أو حتى رفض المساعدة. كما أن عدد القتلى سيرتفع إلى 870.000 إذا تم تضمين جميع الأطفال دون سن الخامسة. قبل أن تطلق المتحدثة في المؤتمر هيلي ثورنينغ شميدت صرخة مدوية أمام الحضور: "هذا يكفي يجب أن يتوقف الأمر"، بخاصة عندما أكدت بالمقارنة أن عدد الجنود القتلى الذين سقطوا في المعارك بنفس هذه البلدان وعلى مدار السنوات التي شملتها الدراسة كان 175.000 مقاتل، أي أن الأطفال والرضع يدفعون فاتورة حماقات الكبار بأكثر من ثلاثة أضعاف.
الأمر لا يتوقف كما صرخت المتحدثة باسم منظمة إنقاذ الطفولة بل يزداد سوءاً، بقيت بنود معاهدات جنيف جامدة، أما الأرقام فهي في ازدياد واطراد، والسبب أن "غياب العقاب يشجع على التمادي في الجرم"، وهذا صحيح للغاية فلم يسمع العالم مثلاً عن محاكمات القوى المتسببة في انتهاك قواعد حماية النساء والأطفال خلال الحروب، على غرار محاكمة نورمبورغ الشهيرة التي خصصت لجرائم الحرب التي ارتكبتها النازية في أوروبا، سيكون هناك نساء حوامل يفقدن أرواحهن وأحمالهن على غرار ضحية مستشفى ماريوبول التي جالت صورها عبر العالم، وسيكون ثمة أبناء حروب وأبناء ملاجئ ومواليد في المحتشدات وعند الحواجز الأمنية؛ إذ تشير تقديرات وزارة الصحة الأوكرانية في عز الحرب الروسية الضارية إلى أن "80.000 امرأة حامل سيضعن 80.000 مولود خلال الثلاثة أشهر القادمة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.