تُشكل المعارضة التي لاقتها حركة السنيورة الانتخابية من مختلف القوى السياسية المتنافسة داخل الطائفة السنية، مؤشراً على مدى حالة التخبط والضياع السياسيين التي يعيشها حالياً اللبنانيون السنّة.
في مؤتمر صحفي عقده بتاريخ 23 شباط/فبراير الماضي، أعلن رئيس مجلس الوزراء السابق فؤاد السنيورة أنه قرر مخالفة قرار زعيم تياره السياسي، سعد الحريري، بعزوف تيار المستقبل عن العمل السياسي، لا سيما عن خوض الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في أيار/مايو القادم، وفهم من حديثه أنه (أي السنيورة) بصدد المشاورات السياسية مع مختلف القوى والشخصيات الفاعلة داخل الطائفة السُّنية من أجل جوجلة الأسماء لتشكيل اللوائح الانتخابية في كافة المناطق ذات الثقل السُّني، لا سيما في بيروت والشمال. وقد برَّر خطوته هذه بضرورة استرجاع قرار الدولة اللبنانية من سطوة الدويلة، أي حزب اللّه.
ما أن انتهى السنيورة من كلامه، حتى بدأت تنهال الردود السلبية على حركته الانتخابية، وهي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. ففي مفارقة لا تخلو من سخرية القدر، اجتمع فجأة طرفان لدودان أساسيان متخاصمان في داخل البيئة السياسية، أي تيار المستقبل ومن يدور في فلكه من جهة، وأنصار النائب والوزير السابق نهاد المشنوق من جهة أخرى (ولو اختلف حجم شعبية كل منهما بفارق مهول داخل الطائفة السنية)، ليس على صلح بينهما، بل على معاداة خصم ثالث، أي السنيورة.
عارض قسم منهم مبادرة السنيورة الانتخابية من مبدأ أنّ حركة السنيورة الانتخابية تتنافى مع توجهات القيادة الحريرية في العزوف عن العمل السياسي، ولم يرَ فيها محاولة لانتشال طائفة أساسية في البلد من الانتحار السياسي المحتم الذي تتجه نحوه برجليها بسبب قرار الحريري، وتفادياً لما سوف يترتب على ذلك من تداعيات سلبية على لبنان، لا سيما أنها طائفة تتمسك بسيادة الدولة اللبنانية وبنهائية كيانه.
أما أتباع المشنوق، من جهة أخرى، فلم يروا فيها إلا محاولة للـ"قوطبة" على زعيمهم، أي على المشنوق، وذلك في نظرة لا تخلو من مزيج من الشخصنة، ومن ضيق الأفق، ومن العجرفة، وكأنّ المشنوقـ الذي يبدو أنه غالباً ما تكون ردات فعله السياسية بدافع الغيرة من رؤساء الحكومة السابقين بشكل عام، ومن السنيورة بشكل خاص، لاسيما أن المشنوق لم يتمكن حتى اليوم من دخول ناديهم لعدم تبوُّئه منصب رئاسة الوزراءـ مرجعية عظمى ذات ثقل، يجب الوقوف على خاطرها في الشاردة والواردة في أمور الطائفة، وحتى استئذانها قبل التحرك انتخابياً أو الترشح.
أما البعض الآخر، كنائب بيروت فؤاد المخزومي ومن لفَّ لفه، فعارض حركة السنيورة من أسوأ الأبواب على الإطلاق وأكثرها عنصريةـ مناطقية، أي من باب أنّ السنيورة من صيدا وليس من بيروت، وعليه فلا يحق له التدخل في أمور العاصمة.
أمام واقع الاختلاط الإنساني الذي يسود في كثير من بلدان العالم، لا سيما من جراء العولمة، حيث ترأس إفريقي ـ أمريكي أكبر دولة "بيضاء" في العالم، وحيث أصبح العرب والهنود والآسيويون الشرقيون ـ الجنوبيون نواباً، ووزراء، ورؤساء بلديات، في أكبر مدن وعواصم البلدان ذات الغالبية البيضاء (التي طبعاً لا تخلو من الكثير من التصرفات العنصرية على أنواعها)، نرى أنّ بعض السياسيين اللبنانيين ما زالوا لا يقبلون بمرشح من خارج مدينتهم، وذلك في مخالفة فاضحة للدستور اللبناني ولقانون الانتخابات.
وهم يمتنعون أمام إمكانية مشاركة هذا "الغريب" في شؤون دائرتهم الانتخابية، لا لشيء، بل فقط لأن هذا "الغريب" من مدينة (صيدا) لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن مدينتهم (بيروت)، وكأنّ صيدا في القطب الشمالي، أو كأنّ عائلات بيروت وصيدا لا تربط بينها أواصر الزواج والمصاهرة، أو كأنّ كثيرين من أهل صيدا لا يعيشون في بيروت، أو كأنّ البيارتة لا يقصدون صيدا كإحدى وجهاتهم الأساسية للعمل والنزهة وحتى السكن.
ثم هم أنفسهم يحدثونك عن العيش المشترك ونبذ التفرقة والعنصرية والطائفية، وهم يغرقون حتى أذنيهم في العصبيات المناطقية والذهنية القبلية المنغلقة. يستشعر هؤلاء خطراً إذا ترشح شخص من صيدا في محاولة منه لمواجهة حزب اللّه وتقليل الخسائر في بيروت، ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ الخطر السياسي الحقيقي هو في إمكانية فوز حزب اللّه ومن يدور في فلكه بأغلبية المقاعد النيابية في العاصمة؟
في الحديث الشريف: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". ولكن، بالمحصلة، يبدو أنّه، للأسف، أصبح الكثيرون من سُنة لبنان لا يجتمعون في السياسة إلا على الخصومة، والعداوة، والنكايات، وضيق الأفق، وقصر النظر، أي على الباطل السياسي، ثم يتحسرون على ما أصابهم من وهن وضعف وتشرذم وتقهقر.
إنّ انتقاد السنيورة مشروع ومطلوب، لا سيما أنه تحوم حوله شبهات مالية كثيرة، عليه أن يبددها. وانتقاد السنيورة لا يجب أن يقتصر على الجانب المتعلق بهذه الشبهات، ولا بسياساته المالية التي ساهمت في إيصال البلد إلى ما وصل إليه، بل بالشق السياسي من أدائه أيضاً، لا سيما فيما يتعلق مؤخراً بصوابية خياره بخصوص الشخصية التي حاول دفعها لترؤس اللائحة في بيروت، أي السفير نواف سلام، الذي عاد وأعلن عزوفه عن خوض الانتخابات.
فمن الأساس، لا قدرة لنواف سلام على جمع السُّنة حوله؛ إذ إنّ ليس لديه الخامة الشعبية الضرورية لذلك. الشارع البيروتي لم يسمعه يتكلم يوماً، بمعنى أنه لم يرَه يوماً في الطريق الجديدة، ولا في المزرعة، ولا في غيرها من المناطق الشعبية. لم يفتح بيته يوماً للناس. هناك هالة نخبوية تحيط به كان يجب معالجتها قبل طرح إمكانية ترشحه، لا سيما عبر التقرب من القواعد الشعبيةـ وليس فقط من الطبقة الوسطى التي ترتاد المدارس والجامعات الخاصة أو التي يعيش أبناؤها خارج لبنان- ومخاطبتها بلغة تفهمها، وتقديم حلول عملية وواقعية لمشاكلها اليومية ولمخاوفها على سيادة بلدها، وعدم الاكتفاء بالشعارات البراقة والعموميات وما شاكلها من الأدبيات المثالية. هذا ما كان يجب أن يقوم به السفير نواف سلام وغيره قبل الترشح، وهذا عمل طويل كان يجب أن يبدأ أقله منذ تشرين 2019، أي منذ طالبت به قوى المجتمع المدني في الحراك كرئيس للحكومة، أما الآن فالأمر متأخر جداً، والناس كانت سوف تراه كمرشح ـ مظلي، التف حوله فجأة الاستبلشمنت السني لإسقاطه بالباراشوت وإنقاذ الموقف.
وعليه، فإنّ طرح ترشيح نواف سلام، قبل أسابيع فقط من الانتخابات، ودون معالجة هذه الهالة النخبوية وحالة الانفصال عن القواعد الشعبية البيروتية التي تحيط به، كان سوف يجعل منه مجرد مرشح إضافي بين المرشحين المتصارعين على حلبة دائرة بيروت الثانية، وهو أيضاً ما لا يليق لا بشخصه، ولا بسمعته العلمية، ولا بمناقبيته، ولا بمسيرته المهنية المميزة والتي تشكل مدعاة فخر لكثير من اللبنانيين، وخصوصاً البيارتة منهم.
كما أنّ السياسة، لا سيما في الشرق الأوسط، ليست مجرد "حوكمة" بإدارة تكنوقراط لديهم خبرات دولية (مراجعة كتب الفيلسوف الكندي ألان دونو حول الموضوع). وقد أثبتت تجربتا كل من البرادعي في مصر، وحمدوك في السودان، فشل هذا النموذج في بلداننا.
أخيراً، بغضّ النظر عن سلسلة الملاحظات على أداء السنيورة وحول خياراته السياسية والاقتصادية والمالية، وهي انتقادات يمكن أن تملأ كتباً ومجلدات، ولكنّ الوقائع تفيد بأنّ حركته الانتخابية لا تشكل "كفراً" سياسياً يوجب كل هذه الإدانات والعرقلات والسلبية من أهل البيت الواحد.
فأقله، أمام مقاطعة الانتخابات التي تشكل خياراً انتحارياً لسُنَّة لبنان بكل المقاييس، الرجل يتحرك، يجتهد، يحاول لمّ الشمل قدر المستطاع وإيجاد آليات لملء الفراغ السياسي الذي سببه عزوف الحريري، يحاول تقليل الخسائر لا سيما بوجه الخروقات المتوقعة والتي سوف تكون أحصنة طروادة للمد الزاحف (حزب اللّه وحلفاؤه داخل الطائفة السنية) بعكس إرادة أكثرية السنة وبسبب عدم مشاركتهم المتوقعة في التصويت، وهذا جهد أفضل بأشواط من سياسة الانتظار، والحرد، وتكتيف الذراعين، والتفرج، والرهان على فشل الغير تمهيداً للشماتة، والنكايات، والنكد، التي ينتهجها من ينتقدون حركته داخل البيئة السنية.
كما لا يمكن التغاضي عن الإيجابيات في مسيرة السنيورة السياسية، لا سيما أنه الشخص الوحيد في كل المنظومة الحريرية الذي استطاع، عندما كان رئيساً للحكومة، الوقوف بوجه حزب اللّه الذي طوقه في السراي الحكومي إبان سيطرته على وسط العاصمة خلال 18 شهراً بين 2006 و2008، فيما عرف وقتها باعتصام المعارضة اللبنانية، وذلك في محاولة لإسقاط محكمة الحريري الدولية وعرقلة سير التحقيق في هذا الملف. إنّ صمود السنيورة بوجه محاولات توسيع الدويلة على حساب سلطة الدولة، والذي كان بنجاحات نسبية، عاد وبدده الحريري تدريجياً بفعل تنازلاته المستمرة خلال السنوات اللاحقة، لا سيما خلال ترؤسه عدة مرات للحكومة.
وبنفس السياق، فإنه لا يمكن إغفال حقيقة أنّ السنيورة كان من النواب القلائل جداً في كتلة المستقبل الذين عارضوا صراحة الصفقة الكارثية بين الحريري وعون، التي أتت بالأخير رئيساً للجمهورية سنة 2016.
ولكنّ اليوم، بين من أصبح مدمناً على سياسة تكتيف الذراعين العبثية وعلى العدمية السياسية، مبشراً بضرورة الانهيار التام للبلد بيد حزب اللّه كمقدمة لإعادة النهوض، وبين من يتآكله (لا) منطق الأنانيات والعجرفة وسياسة الزواريب السخيفة، ناهيك عن شخصنة العمل السياسي والغيرة الطفولية، مروراً بمن يتلذذ بترف المزايدة بالعفة والأخلاق ومبادئ جمهورية أفلاطون، في حين أنّ البلد يغرق في مستنقع من الكوارث، يبدو جلياً أنّ قصر النظر وقلة الحكمة السياسيين أصابا شرائح واسعة من سُنة لبنان، وفارقتهم أدنى مقومات الواقعية، وقرروا الانتحار سياسياً.
أما الخاسران الأكبران من كل هذا التخبط السياسي ومن الخيارات العبثية التي يقع فيه حالياً سُنة لبنان، فهما الطائفة السنية ولبنان. إنّ الطائفة السنية أكبر من المستقبل، ومن المشنوق، ومن المخزومي، ومن السنيورة، ومن الكثيرين غيرهم.
أما لبنان، فهو أكبر من الجميع، ومصلحته فوق كل اعتبار، ولا يمكن أن تتحقق المصلحة اللبنانية دون مشاركة طائفة لبنانية أساسية بالانتخابات، لا سيما أنّ أكثريتها الساحقة متعلقة بالدولة وبسيادة لبنان، خصوصاً أنّ المخاطر تتضاعف على لبنان في ظل التبدلات الكبيرة في المشهد الجيوسياسي التي يقدم عليها العالم، ومنطقة الشرق الأوسط بالتحديد، بعد الحرب على أوكرانيا، وتعثر المفاوضات الإيرانية الأمريكية.
فحبذا لو لا يبدأ غداً من يبدو أنهم قرروا الانتحار السياسي، كعادتهم، بالبكاء على الأطلال بعد خراب البصرة، أكثر مما هي عليه من خراب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.